ما وراء أسوار تكريت؟

 

مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

 

بصورة مفاجئة توقفت العمليات العسكرية في مناطق تكريت والسبب المعلن هو انتظار قوات مساندة، وتجهيزات عسكرية واكتمال الاستعدادات الأخرى، وهو ليس صحيح على الإطلاق لان القوات العسكرية والحشد الشعبي ومتطوعي العشائر مكتملة وكافية للهجوم، والتجهيزات العسكرية من العتاد والآليات متوفرة أيضا، وقد صرح قادة الجيش والحشد الشعبي في أكثر من مناسبة بان قواتهم على أهبة الاستعداد وبكامل قوتها وبانتظار الأوامر لاقتحام تكريت، ولكن السبب الحقيقي يختلف عن السبب المعلن، هو تدخل أمريكي بطلب خليجي وعربي بناءا على طلب بعض الأطراف السنية في الحكومة العراقية لإيقاف العمليات العسكرية وعدم التقدم أكثر في تكريت أو إي منطقة أخرى.

طبعا السؤال الذي يمكن طرحه حول التوقف المفاجئ للعمليات العسكرية الجارية عند وسط تكريت، هل كان أمرا اعتياديا؟

وهل هو في صالح العمليات العسكرية التي يمكن إن تكون مقدمة لتحرير مدينة الموصل؟

من المعروف إن هناك خطوط حمر مرسومة وادوار محددة لكل لاعب في الأزمات الدولية، ومناطق العالم لايمكن إن يتجاوزها اللاعبون الدوليون والإقليميون، وهي خطوط تفرضها أعراف اللعبة الدولية، وان الحالة العراقية لاتخرج عن هذا المنظور.

كما إن هناك حملة إقليمية ودولية مزروعة بالشكوك رافقت الحملة العسكرية في مدينة تكريت، حتى أصبحت الشغل الشاغل لوسائل الإعلام والمتابعين ودول المنطقة، فضلا عن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يطلب منها المساعدة الا بعد ان اصبح تحرير تكريت قاب قوسين أو أدنى في العمليات الجارية التي حررت مئات الكيلومترات من الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم.

إذ حذر رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي في زيارته للعراق يوم الاثنين 9/3/2015، من احتمال تفكك الائتلاف الدولي ضد التنظيمات المتشددة في حال لم تقم الحكومة العراقية بتسوية الخلافات الطائفية في البلاد، وانه يشعر ببعض القلق إزاء صعوبة إبقاء الائتلاف للمضي في مواجهة التحدي.. ما لم تضع الحكومة العراقية إستراتيجية وحدة وطنية سبق والتزمت بها، وأن الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة يضم دولا سنية والعلاقات بين بغداد وطهران باتت تثير القلق، وأكد أن على العراقيين "أن يكونوا واعين للتحدي المتمثل بضرورة إبقاء الائتلاف موحدا، داعيا في المقابل إلى اعتماد الصبر الاستراتيجي في مُواجهة هذا التنظيم.

وجود قيادات عسكرية بارزة من إيران إلى جانب القادة العراقيين الذين يديرون المعركة، جرى التركيز عليها بشكل كبير، بعد أن صورت على شكل مخاوف طائفية في استهداف الأقلية السنية داخل العراق، على الرغم من وجود الآلاف من الجنود والمستشارين من الولايات المتحدة الأمريكية والجنسيات الغربية الأخرى في وسط وغرب وشمال العراق، والتي تقدم بدورها الإسناد والتدريب والاستشارات العسكرية للقوات الحكومية، إضافة إلى قوات "البشمركة" الكردية، إن أكثر ما يقلق الولايات المتحدة هو العلاقات الوطيدة بين السلطات العراقية وإيران، إذ كانت إيران من أول الدول التي تقدم الدعم للقوات العراقية، وتوقف تقدم داعش صوب المحافظات الجنوبية، وبهذا فان الدعم الإيراني للعراق في حربه ضد داعش، يعد السبب الذي قد يفشل المشروع الأمريكي في العراق خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط عامة، هذا المشروع الذي بدأت بواكيره منذ عام 1991، وهو تقسيم المنطقة إلى دويلات متناحرة يسهل السيطرة عليها، وتكون تحت النفوذ الأمريكي.

فعلى الرغم من وجود اتفاقية التعاون الإستراتيجية بين العراق وأمريكا المعقودة عام 2008، والتي تلزم الجانب الأمريكي بالدفاع عن العراق ضد أي عدوان خارجي، الا إن الولايات المتحدة لم تحرك ساكنا، ولم تقدم أي مساعدة للعراق ضد هجوم داعش، بل بدأت تعترض على تقديم الدعم من إيران للعراق، وتثير الدول العربية على هذا التعاون، لا بل وصل الأمر إلى تقديم الدعم للمسلحين في الموصل والانبار وصلاح الدين من خلال رمي السلاح والمؤن لهم، وأخيرها وليس أخرها قيام طائرات أمريكية بإلقاء مساعدات لداعش في شمال تكريت يوم 22/3/2015، كذلك وصول رئيس الأركان الأمريكية (ديمبسي) وانتقاده للتعاون بين العراق وإيران، واتهامه للحشد الشعبي بأنها ميلشيا طائفية، وقيام طائرات التحالف الدولي في المنطقة الغربية، في الأنبار، بقصف القوات العراقية واستشهد أكثر من 22 جندي عراقي بضربات جوية نسبت "لنيران صديقة"، وقد تعددت الروايات بشأن مصدر النيران، الا إن الرواية الأكثر تكرارا اتهمت الطائرات الأمريكية التابعة لقوات "التحالف الدولي"، وفي حال كانت هذه الرواية واقعية فان الغرابة والغموض تزداد مع وقت وزمان هذه الضربة، علما إن القوات المتقدمة نحو تكريت لم تطلب مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في الإسناد الجوي، وهذا يدل على إن للولايات المتحدة دور في إيقاف العمليات العسكرية في تكريت، وان هناك خطوطا حمر غير معلنة لايمكن تجاوزها.

البيان المثير للجدل لشيخ الأزهر (اكبر مرجعية سنية في مصر) احمد الطيب والذي "ندد فيه بما وصفها بـ"المجازر التي ترتكب ضد أهل السنة" في العراق خلال المواجهات مع داعش، واصفا مرتكبيها بأنهم "مليشيات شيعية متطرفة" (والتي يقصد فيها قوات الحشد الشعبي)، كما طالب "بضرورة التحرك العاجل لوقف المجازر التي ترتكب ضد أهل السنة في العراق"، وهو أمر اثار ردود أفعال واسعة النطاق، وصلت حد التصريح (من قبل شخصيات بارزة في مصر) بتعرض شيخ الأزهر إلى ضغوط إقليمية (السعودية) وصلت حسب قول (محمد البرادعي) إلى دفع مبلغ ثلاثة مليار دولار لمصر من اجل التصريح بهكذا بيانات تتناقض مع التصريحات السابقة لشيخ الأزهر في ضرورة مكافحة الجهات المتطرفة من جهة، ولا تصب سوى في مصلحة المتطرفين من خلال تأجيج الطائفية والتفرقة في الشرق الأوسط من جهة ثانية.

إعلان دول الخليج ومنها السعودية بان تكريت تمثل رمزا لأهل السنة ومن غير المسموح لقوات الحشد الشيعية (حسب قولها) بالدخول إليها أو أي مدينة سنية، متناسية كل ماجرى لأبناء العراق في تكريت على يد عصابات داعش الوهابية المعلومة خليجيا، وهذا يدلل على انه هناك يد خفية تعمل وراء هذه الأحداث وهو إقامة الإقليم السني وبكل الوسائل، وذلك بما تملكه من أموال لدفع الأمم المتحدة ودول العالم الأخرى إلى الوقوف بوجه الحشد الشعبي، فقد اتهم رئيس مجلس إسناد أم الربيعين زهير الجلبي، منظمة هيومن رايتس ووش والأمم المتحدة ببيع نفسها لدول الخليج بالمادة مقابل الكيل بمكيالين في القضايا التي تخص العراق وخاصة الإساءات للمتطوعين والقوات الأمنية. وقال الجلبي؛ إن " داعش فجرت منازل الشيعة في الموصل ولم يصدر من منظمة حقوق الإنسان الدولية أو الأمريكان أو الأمم المتحدة إي إدانة أو استنكار في حين تستنكر حرق منزل أو منزلين في تكريت كانتا مفخختان من قبل داعش وتعيق تقدم القوت الأمنية ". وأضاف أن "دول الخليج دفعت لمنظمة هيمن رايتس ووش والأمم المتحدة أموالا واشترت ضمائرهم مقابل تصريحاتهم ضد الحشد الشعبي وخير دليل وصف القائد الأمريكي بترايوس للحشد بأنهم أسوء من داعش ". وبين الجلبي أن " هناك تنسيق مشترك مابين سياسيين عراقيين وأمريكا ودول الخليج في التصريحات المسيئة للحشد الشعبي والقوات الأمنية ".

في السياق ذاته، ينبغي تسليط الضوء الكافي على التأثير الأميركي والإيراني ودورهما في المشهد السياسي والعسكري العراقي وتأثيرهما على المسارات والآفاق، وخصوصا في ضوء ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" أمس عن خلافات أميركية إيرانية حول نشر إيران لصواريخ مختلفة قرب تكريت وتحذير واشنطن لها من إثارة توترات طائفية بسبب عدم دقة هذه الصواريخ في إصابة الهدف، كذلك لاننسى المفاوضات بين إيران والدول 5+1 حول البرنامج النووي الإيراني، والتي تحولت أخيرا إلى مفاوضات مباشرة بين وزير الخارجية الإيراني (محمد جواد ظريف)، والأمريكي (جون كيري)، في سويسرا، والتي جمعت مواضيع أخرى غير البرنامج النووي الإيراني، ومنها قضايا المنطقة، وخاصة العراق، خاصة وان هناك معلومات أكدت على إن بعض الدول ومنها خليجية قد حثت أمريكا على إضافة قضية تكريت إلى المفاوضات مع إيران، بغية الضغط عليها ومن ثم على قوات الحشد الشعبي لإنهاء حصار تكريت، وسحب المستشارين الإيرانيين من العراق، وبهذا فان أي اتفاق بين إيران وأمريكا حول برنامجها النووي، سيكون له ثمن على إيران أن تدفعه، وقد يكون الشأن العراقي احد هذه المطالب، فعلى الرغم من إن المرشد الأعلى قد أكد على إنه لايمكن الربط بين مفاوضات حول البرنامج النووي وبين الأحداث الجارية في المنطقة، الا إنه لايمكن التكهن بهذه الأمور، ففي السياسة لايوجد عدو دائم وصديق دائم بل مصالح دائمة، وان إيران قد تقدم تنازلات لأمريكا فيما يخص العراق، فيما إذا حصلت على فوائد من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وليس بعيدا عنا اتفاقية عام 1975 بين إيران والعراق، إذ تخلت إيران عن أكراد العراق، بعد حصولها على نصف شط العرب في اتفاقية الجزائر، وبهذا فان ربط توقف الهجوم على تكريت بالمفاوضات بين إيران وأمريكا ليس ببعيد.

هجمة سياسية سنية عراقية على قوات الحشد الشعبي وقيام بعضهم باعتبارها قوات احتلال، ومخاطبة أمريكا لتزويد العشائر بالسلاح الثقيل، وفي مقابلة للنائب أياد علاوي مع إحدى الفضائيات العربية طالب بسحب المستشارين الإيرانيين، واعتبر وجودهم يثير الطائفية في العراق، وتوجيه اللوم للنائب عن القائمة الوطنية احمد الجبوري الذي أشاد بقوات الحشد الشعبي واعتبارها قوات وطنية، وقيام عدد كبير من أبناء الجبور في صلاح الدين بالالتحاق بالحشد الشعبي، ولاننسى تصريحات نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي ضد قوات الحشد الشعبي وانه لن يوافق على دخولها إلى الموصل، كذلك قيام العديد من البرلمانيين العراقيين بانتقاد قوات الحشد الشعبي وأمام الإعلام، قد يولد حالة من الإحباط لدى هؤلاء المجاهدين، فبدلا من الثناء على مواقفهم المشرفة، توجه التهم الباطلة لهم، وهذه هي السياسة التي يتبعها الإرهابيون ومن لف لفهم لكي يقللوا من عزيمة المجاهدين لتحقيق أهدافهم في تقسيم العراق.

وكان التوقف عند أسوار تكريت ليس في مصلحة العراق، لان الانتظار لمدة طويلة، وعدم استثمار اندفاع أبناء الجيش والحشد الشعبي، واستغلال انهيار قوة داعش، قد يضعف من عزيمة المقاتلين، ويعطي العدو الفرصة لكي يعيد قوته، كذلك تكثر الضغوطات الدولية على العراق، من اجل الحل السلمي والتفاوض، خاصة وكانت هناك عدد من أصوات الشيعة تطالب بالتفاوض، وخروج المسلحين من تكريت بدون قتال، وهذا التوقف يقود إلى الاعتقاد بإن تحرير الموصل قد يكون من قبل جهات أخرى لها أجندات سياسية في العراق، وهو المخطط المرسوم القاضي بإنشاء دولة للدواعش تمتد من الرقة إلى الموصل تفرضها امرا واقعا المتغيرات الدولية والإقليمية في الثلاثين سنة القادمة وهي المدة التي قررها البنتاغون للخلاص من داعش وهي بالحقيقة مدة كافية لإنشاء دولة الدواعش التي ستبتلع دولة الخلافة العثمانية أراضيها بعد ثلاثين عاما لتحقق حلمها في عودة ولاية الموصل التي لا زالت إلى اليوم تخصص لها ميزانية ضمن الميزانية الرسمية للحكومة التركية مقدارها ليرة واحدة كأجراء رمزي يكرس ثقافة عائدية الموصل إلى تركيا، وحتى لا نذهب بعيدا بتأويل هذه الأحداث الغربية بأكثر من حجمها الطبيعي، ينبغي التركيز جيدا على كل تلك العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تحاول تشتيت الجهد الحكومي في تحقيق النجاحات السريعة، وتضخيم الأحداث، واللعب على العامل الطائفي، الذي ذاب في معركة تكريت من خلال مشاركة أبناء العشائر السنية مع أبناء الحشد الشعبي، وهو جهد سياسي في المقام الأول، ينبغي على الحكومة العراقية أن تمارسه في هذه المرحلة الحرجة، لإثبات الواقع الذي يحاول الغير تحريفه عن مساره الحقيقي، الا إن التصيد في الماء العكر ميزة يمكن إن يمارسها الخصوم في قلب الأوضاع، وهذا ما يخشاه الجميع على مستقبل العراق الجديد والمرحلة القادمة لطرد عناصر التنظيم من جميع مناطق العراق.