جبر من بطن أمه إلى القبر |
الرفق بالإنسان العراقي زار العراقي (جبر) مقبرة قديمة في إحدى القرى النمساوية, وكان برفقته صديقه النمساوي, فجلبت انتباهه شواهد القبور, التي كانت تحمل عبارات غامضة, تقول: ولد نيكولاي عام 1910 ومات عام 1960 لكنه عاش في الدنيا عشر سنوات, وولدت جانيت عام 1925 وماتت عام 1958 لكنها عاشت في الدنيا خمس سنوات فقط, وعلى السياق نفسه كانت معظم شواهد القبور تحمل المفارقات الرقمية الملفتة للنظر, فقال له صديقه النمساوي: لا تتعجب يا (جبر) ولا تندهش, فالزمن المختزل على شواهد قبور الموتى يمثل أجمل سنوات العمر التي عاشها نيكولاي في النمسا, أو التي عاشتها جانيت على الرغم من تمتعهم بالعيش الرغيد في أجمل جنائن الكون, فارتسمت علامات الحيرة والبؤس على وجه (جبر), الذي لم يذق طعم السعادة منذ ولادته, فقال لصديقه النمساوي بصوت مخنوق: استحلفك بالله يا (اندريه) إذا مت عندكم فاكتبوا على قبري هذه العبارة ((جبر من بطن أمه للقبر)), فالسعادة في مقياس (جبر) تساوي صفر. . لقد رافقتنا المصائب والكوارث والمحن منذ طفولتنا, حتى نسينا طعم الفرح, وانقطعت علاقتنا براحة البال, فنسينا شكل الصفاء والهناء, وصرنا نتشاءم من الضحك في الهواء الطلق, فالضحك عندنا من الممنوعات, التي يتعين علينا تجنبها والابتعاد عنها حتى لا يتعكر مزاج عفاريت الغضب, فتصب جام غضبها علينا, لكننا نضحك أحيانا في السر, فنتدارك الأمر على الفور, ونردد بصوت خافت هذه النغمة الخالدة: ((اللهم اجعله ضحك خير)) وكأننا نؤدي ترنيمة مقتبسة من طقوس الالتزام بطابع الحزن, باعتباره من خصال الوقار. . وربما كان كاظم الساهر على حق عندما صدح بمواله: ((أنام مهموم وأنهض مستعد للهم)), فقد عقدنا اتفاقية أزلية مع الهموم والأحزان, فلا هي تفارقنا, ولا نحن نفارقها. . قديما كنا نغبط أوربا على ما حققته لأبنائها من أمن واستقرار ورفاه, ولما وفرته لهم من ضمانات اجتماعية سخية, ورعاية صحية مجزية, ومعاهد علمية راقية, وحياة رغيدة لا تشوبها شائبة, اما اليوم فصرنا نحسد أخواننا العرب على ما نالوه في أوطانهم من طمأنينة ورقي وبهجة وسعادة ورخاء وازدهار وحياة كريمة, حتى تفوقوا على أوربا وأمريكا في الأساليب الحضارية المعاصرة والمبتكرة, فتوافد الأوربيون على دبي, ورأس الخيمة, وشرم الشيخ, وتونس, وبيروت, والإسكندرية, والمنامة, ومراكش, بينما صرنا نحن من المدمنين على مشاهدة برامج (من حياة الشعوب), التي تعرضها لنا الفضائيات, نتابعها بشغف, فنتحسر على ما آلت إليه أحوالنا من تخلف وتراجع وتقهقر وبؤس, نكاد نموت من القهر ونحن نرى هذا التباين الكبير بيننا وبين بقية الشعوب والأمم. . . نحن في أمس الحاجة الآن إلى من يرفق بنا, ويعاملنا بلطف, فقد طفح بنا الكيل, ولم نعد نحتمل هذا الكم الهائل من المنغصات اليومية, فما الضير من تأسيس جمعيات مركزية وفرعية للرفق بالإنسان العراقي والعناية به ؟؟. . ها نحن في العراق نموت بشتى الطرق من دون أن يكترث لموتنا أحد, وليس أدل على ذلك من الانفجار الذي وقع في شارع (عبد الله بن علي) بالبصرة, حيث تساقط الناس بالعشرات, لكننا اكتشفنا إنهم كتبوا في الحقل المخصص لسبب الوفاة, إن شهدائنا ماتوا حرقاً بتماس كهربائي. . سمعنا مؤخراً إنهم عثروا في كندا على جثة قطة ملقاة وسط الشارع, فهرعت سيارات البوليس والإسعاف والإطفاء إلى مكان الحادث, ونقلوا جثتها برفق, فاكتشفوا بعد التشريح السريري الدقيق إنها فارقت الحياة بسبب الشيخوخة, لكنهم واصلوا التحقيق والبحث والاستفسار عن ظروفها الصحية والمعيشية قبل الحادث المؤسف الذي أودى بحياتها, فالقطة في كندا من الثروات الوطنية, ولها عياداتها ومنتجعاتها الخاصة, اما نحن فلا مكان لنا في الأجندات السياسية للكيانات المتناحرة والمتشاجرة والمتنافرة . . وسمعنا إنهم انشئوا في قبرص عيادة خاصة لرعاية الطيور المعاقة, والعناية بها حتى لا تصاب بالإحباط, أما نحن فصرنا نعالج مرضانا على نفقتنا الخاصة في مستشفيات بومباي والأحواز وبيروت وعمان وعبادان, (نعم في عبادان), فالتصق بنا الإحباط, ورافقنا خطوة بخطوة, لكنه انتهز فرصة انشغالنا بنقص مفردات البطاقة التموينية ولاذ بالفرار, فتخلص من رفقتنا المزعجة, وابتعد عنا إلى غير رجعة. . المواطنون في اليابان سُئل يوماً رئيس وزراء اليابان عن سر التفوق الكبير الذي أحرزته بلاده على الصعيد العالمي, فقال: لقد أعطينا المواطن راتب وزير, وحصانة دبلوماسي, وإجلال إمبراطور. . |