" ابو جويدة " وفيصل القاسم ....
                        
                                                                                                      
 
كان "ابو جواد " ساعيا ( فراشا ) في دائرتنا ،ولم يكن احد من موظفي وموظفات الدائرة ليدعوه بكنيته التي يحبذها  تلك..." ابو جواد " ، بل كان الجميع يناديه ب" ابو جويدة " ، تلطفا معه او استصغارا لشأنه او الاثنين معا . كان ذلك يثير امتعاضه في البدء ، ثم سرعان ما ذهبت اعتراضاته ادراج الرياح وتقّبل الامر بسعة صدر ورجاحة عقل عرفتها عنه .  لقد تمّيز ابو جويدة ، اضافة الى سعة صدره ودماثة خلقه بميزة قلما كنا نراها في اشباهه واقصد السعاة والفراشين وما اليهم  ، فقد كان مولعا بالكتاب ، مغرما بالتثقيف الذاتي ، خصوصا كتب التاريخ ، التي كنت المحه يغوص في ثناياها ويحدق الى صفحاتها كلما كان لديه فراغ ....
وحيث لمس مني تعاطفا وتشجيعا فقد كان ، ابو جواد ، يبثني شكواه ، بين الفينه والاخرى :
- ما للناس يا استاذ ؟!
-مالهم ؟؟
-يتركون اللبّ ويعتنون بالقشور ، خذ اعمامي ومعارفي مثلا ، انهم يجلسونني المكان الاكثر ضعة  في مجلسهم ولا يلتفتون الى احاديثي المليئة بالعبر وينشغلون بدلا منها في سفاسف الامور !!
- وبم تحدثهم يا ابو جواد ؟
-لقد ملئوا قلبي قيحا والله ،اني لانحت لهم كل حكاية وحكاية واقتبس لهم كل عبرة من بطون الكتب ، واتحفهم بكل سالفه ... تفكّ المصلوب ، كما يقال ، فلا يلتفتون الي ّ ويتشاغلون بالسوق والعمله ونزول الدولار وصعوده مطلقين النكات السمجه والتعليقات البذيئه ، ومجلسين كل وضيع، فارغ، من السوقة في صدر المجلس مبدين له ايات الاحترام  والتبجيل اذا ما كانت جيوبه ملانه ولبه خاوي !!.
ترك ابو جويدة الدائرة ، على حين غرة ، ولم التقيه الا ّ بالصدفة بعد عقد ونيّف، وجدته شخصا  آخر في مظهره ، فبدلا من بنطلونه المهلهل  وجاكيته الرث ارتدى بدلة ريفية " صايه وجاكيت " ذات قماش صوفي غال  ،وعوضا عن حذائه البلاستيكي الرخيص ،  انتعل حذاءا جلديا فاخرا وبدلا من ياشماغه الخلق القديم ، الذي كان يلف به رأسه ، اعتمر يشماغا مطرزا واضح الترف وعقالاصوفيا كنت اراه على رؤوس الشيوخ الموسرين ، وقد تأطر عوده الناحل الذي امتلأ وكرشه الناتيء بعباءة صوفية فاخرة مطرزه بخيوط الكلبدون الذهبية على نحو مبالغ فيه ، قال مجيبا عن نظراتي المتسائله :
-اضطررت الى ترك الوظيفة، يومها ، تحت ضغط الحاجة والاملاق واتجهت الى السوق وقد فتح الله علي ّوها انا ذا تاجر  يشار اليه بالبنان !
قلت – باالتوفيق.. لقد تخلصت من الفقر وايامه ..
امسك بيدي، بموّدة ، وهو يقول - نعم صحيح ، انا تخلصت من الفقر ولكنني صدمت بفقر الناس وفاقة المجتمع ... وينتابني احيانا حنين جارف الى ايام الفقر تلك التي تشير اليها ...
تذكرت شكواه الدائمة من معاملة معارفه واقرانه سألته مبتسما ؛
-كيف حال اعمامك  معك ؟
- اسكت وخليها...انهم يجلسونني في صدر المجلس، ويقفون تهيبا لي عند دخولي ، ويثنون لمجلسي الوسائد ....
- عوّضك الله عما عانيت على ايديهم ...
- انهم يفغرون الافواه عندما اتحدث ويبدون الاعجاب حينما اتكلم ...
قلت له – كنت قارئا مطلعا ومنطيقا ، كما اذكر، فلا غرو ان ينصتوا اليك ...
 اجاب بمراره – يامنطيق... ياعَزَه....انني لأعجب من امر نفسي واتسائل، بجد، فيما اذا كنت او بقيت ابو جواد ذاته !
- كيف ؟!
- سبحان الله ...لقد  تبدد كل ما في رأسي وباتت حكاياتي اسخف من احاديثهم ، فلا تعرض لي الاَ الجملة السخيفه والعبارة الفارغة ولا تنِّدُ عني الاّ النكته الخاويه... لا اعرف ما الذي دهاني يا استاذ ...اننيّ املص في الكلام تمليصا ... واجلّط في القول تجليطا ، ومع كل ذلك فهّم يفغرون افواههم اعجابا ويثنّون على اقوالي الثناء كله ويهزون الرؤوس موافقة بل ويغرقون في الضحك لما اطلقه من تافه النكات والتعليقات السمجه التي لا تضحك احدا ! ...لقد اصبحت مثلهم لا اعرف الاّ " صعد السوق .. نزل السوق ...الاخضر بكذا ....ليس غير ... وجيم ّ مخي اتجاه الكتاب والقراءة ...انني لا شعر بالحزن والعجب... اين ذهبت سوالفي الجميله  القديمه ؟... لماذا توارى حسّي الناقد ونظرتي النافذه ؟ ثم ، وهذا ما يثير لدّي العجب والاستغراب ، ...مالذي دهى الناس فبات سخيف القول وفارغ اللغو محل اعجابهم وثنائهم الى هذا الحد ؟!
تذكرت قصة ابو جويدة ، وانا اقرأ قبل ايام ، ما كتبه احد الاصدقاء، من تعجبه من تفاهة ما يتفوه به اعلاميٌ عربيٌ بارز وضحالة ما يسوقه من تحليلات . وكيف يصدر عنه ذلك وهو قامة اعلامية معروفه ... فعلقتُ على ما كتب " ليس في الامر من عجب . فعلى العكس تماما مما يتوقعه المنطق ويفترضه الحس السليم ، فان اساطين هذا النوع من الاعلام وزعماء هذا الضرب من الثقافه، كانوا دائما ، وضعاء وافاقين وتافهين من حيث المحتوى ، حتى كأن هذه الامور هي شروط قبولهم وارتقائهم الى تلك المواقع ...كتبت ذلك التعليق وانا استحضر في بالي عشرات الاسماء ، محليا واقليميا وعالميا !... من ذلك الكاتب الذي لايفقه من فن الكتابة شيئا وصعوده الصاروخي  وتسليط الاضواء عليه لا لشيء الا لانه ظهير للزعيم الفلاني  يسّبح باسمه الاء الليل واطراف النهار الى ذلك الأفاق الذي  بات يتحكم  بمؤسسات اعلامية وثقافية كبرى  وهو الدعيّ، الآسن التاريخ ، العاطل الموهبة والابداع سوى عن الكذب والتدليس والتملق ومحاباة الاقوياء وذوي السلطان ، محليين او اقليميين او عالميين وانتهاءا بذلك الصوت المأجور الذي يتفنن في اثارة الشحناء والكراهية واشعال الاحقاد  خدمة لمخططات دولية تريد بالمنطقة وشعوبها شرا. وهذه النماذج  ليست نعمة اسبغها الله علينا فقط ، انما هي موتيفات عالمية تتكرر  في كل مكان  من ارجاء المعمورة !  فالاسماء الكبيره ، ليست كبيره ولا موهوبه  بقدر ما هي نتاج لصناعة نجوم محلية وعالمية تسيّرها المصالح وتتحكم بمخرجاتها الغايات . وعالم السوق  الذي يشمل كل شيء في عالم اليوم يمتد الى الاعلام والثقافه فتصبح  غير معنيه بالحقيقة ولا الواقعة ولا البحث عن المضمون ولا تفسير العلاقة ، انما تصبح " صناعة رأي " تبرر فيها الغاية الوسيلة . تصبح في عالم السوق ، سلعة ، تباع وتشترى وتقيم ّ كأي سلعة ، والمشترين ، ليسوا المستهلكين او المتلقين من الجمهور ، وانما المؤسسات والقوى والدول ، ومشاريعها وغاياتها  التي تريد ان تحشد الجمهور باتجاهها وتبلبل وعّيه ازائها . ولذلك ، فان لهذه الجهات شروطها ومطالبها التي يتعين على السلعة ان ترضيها وتطمنها لكي يكون الاقبال والشراء .  فلا غرابة ان  تنقلب الحقائق وتلتبس المعاني ،فيصبح العدوان ... صداقه  ، والتدخل ...  معونه ، والشعب الاعزل ...زمرة متمردة . والعصابة المجرمة ....اغلبية . ومطلب الاستقلال  ....انغلاقا وعزلة . وبيع الاوطان انفتاحا.... وليبرالية ، ولهذا المهرجان ، بطبيعة الحال ، عرابوه وبهلوانيوه  وسماسرته ولن يجد " ابو جويدة " القديم  وبحثه في بطون الكتب واستخلاصه للعبر ، مشترين لبضاعته في هذا المهرجان ، انما يتعين عليه ان " يملصّ في الكلام تمليصا ...  ويجلط في القول تجليطا "  لكي يجد طريقه الى سٌلم  القّوة والمال !