مسيح الأمس واليوم |
أن الإنسان في هذا العصر وهو يواجه مصاعب عديدة فرضت عليه قسراً لتضاف إلى همومه ومعاناته الأزلية المكتسبة ومهما حاول الخروج من الدائرة المغلقة التي وجَدَ نفسه بها والهروب بما تبقى من أشلائه يَجدْ أن الدائرة تضيق وتنكمش لتصل إلى حَدْ الأختناق ، وهذه الحالة المؤلمة أسترجعتني إلى فيلم أيطالي قديم تمثيل (فيتور كاسمان) وتحكي قصة الفيلم عن شخصية تتمتع بنفوذ كبير في الصفقات التجارية متزوج من زوجة جميلة ولها طفلين ولكن لا تخلو حياته من مضايقات يومية أبتداءً من أزدحام الشوارع التي يتطلب أجتيازها للذهاب إلى مكتبه وسط المدينة والعودة لمنزله وانتهاء بالمشاكل المترتبة من جراء الصفقات التجارية التي تستوجب وضع (المبادئ والقيم) على الرفوف لكي يصمد في عالم حيتان المال. وقبل أن تصل به الأمور النفسية لحد الأنهيار يقرر الهرب بنفسه وحيداً من المدينة وشوارعها المزدحمة ومن متاعب المال الذي لا يأتي إلا بعد معاناة قاسية تنهك أعصابه، وتؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان حياته. وعائلته معاً، ويخرج من قصره الكبير راكضاً وبدون حقيبة في الشارع ليستأجر سيارة يطلب منه نقله إلى عالم آخر إلى مكان ليس فيه شوارع مزدحمة ولا شركات ترواغ من أجل كسب المال، فينتهي به المطاف إلى وادٍ محاط بجبال عالية ليس من السهولة على الناس التفكير يوماً ما من الوصول إليها ليحط الرحال على أحد الجبال ويتخذ من غار فيه ملجئاً له، وبعد مدة يظهر التغير الكبير على ملامحه فيصبح بلحيته الكثة وشعره الطويل وملابسه البدائية أشبه بالإنسان الأول بل وصورة مقربة من (المسيح) عليه السلام. ومن سوء حظه وعن طريق الصدفة يكتشف أمره في الغار الجبلي من قبل سائحين عجوزين وبعد مشاهدته والتحدث معه يتوصلان في قرارة نفسيهما بأنه (المسيح المنتظر) وقد كتب الله له الظهور على هذا الجبل المقدس، وسرعان ما يعم خبره في القرى والمدن القريبة من الوادي والجبل، ليأتي الناس إليه على شكل قوافل من السيارات ليصبح المكان مزاراً لهم والتقرب من مسيح هذا الزمان!! وبعد أن وجد نفسه مطوقاً بالناس وبإسألتهم ليلاً ونهاراً يقرر العودة إلى المدينة هرباً من الناس الذي أصبحوا يملأون الوادي وينتشرون على الجبل بخيماتهم وموسيقاهم الأحتفالية بإكتشاف نبوءة العصر التي تساعدهم على غسل ذنوبهم من آثام الزمان. ما هدفت بهذا المدخل هو الوصول إلى أنه من حق الإنسان في يخلو إلى نفسه حيناً بعد حين، فيكون من حقه أن يجلس وحده ساعة أو بعض ساعة، للتأمل، لا يزعجه فيها أحد من قريب أو من بعيد، وأقصد بالبعيد هنا ما يصلون إليه عن طريق الموبايل أو التلفون ويغلق جهاز التلفاز لكي لا يرى ولا يسمع ولو لحين من الزمن لإعادة العافية إلى نفسه المتعبة من مشاكل الحياة، وأنني لأزداد أستمساكاً بهذا الحق لمن أراده لنفسه، كلما رأيت أن مجتمعنا الحديث ممعناً في سيره نحو أن يحوّل أفراده إلى قوائم من أرقام، فالفرد الواحد بالنسبة إلى أولي الأمر في المجتمع (الحكومة) هو من ولد في التاريخ الفلاني، ويحمل بطاقة شخصية رقمها كذا، ويسكن منزلاً نمرته كيت، وطوله كذا ووزنه كيت، ورقم موبايله أو تلفونه كذا..الخ وتضاف لها الأرقام الاقتصادية والتجارية والاجتماعية اليومية المفروضة عليه، -أقول إنني كلما رأيت إمعاناً في هذا الاتجاه الرقمي الحديث، أشفقت على ذاتية الفرد أن تتفكك إلى مجموعة منوعة من أعداد ولا شيء غير ذلك، وأزددت بالتالي مطالبة للإنسان (بحق الخلوة) إلى نفسه ليتصل هو بذاته أتصالاً مباشراً إذا كان سائر الناس لا يريدون منه إلا جانب الأرقام والأعداد.. في زمن يجري التعامل فيه مع الناس بعد وقبل سقوط النظام عام 2003 تعاملاً (رقمياً)، وكأنهم لعبة (دومينو) سواء مع أحيائهم أو أمواتهم، ففي الانتخابات يبحث المرشح السياسي عن عدد الأصوات التي تمكنه من الفوز والجلوس على كرسي البرلمان!! وفي الحروب (المجانية) والتفجيرات والقتل الجماعي والمقابر الجماعية تذكر الجهات المعنية (أرقاماً إحصائية) للموتى الذين نقلوا للعالم الآخر من دون ذنب، وكأنهم لم يكونوا يوماً ما بشراً أو أفراد في المجتمع!! وهناك من يسأل: ماذا كانت تكون حال البشرية كلها لو لم يتح لطائفة من الأفراد أن يخلو إلى أنفسهم؟
كم نبياً جاءته الرسالة في خلوته؟ كم عالماً وكم فيلسوفاً لمعت في رأسه الفكرة وهو في عزلته، بل وقد تكون هذه العزلة أحياناً في غيهب السجن؟ أن ثمرت الحضارة الإنسانية هي في الأعم من نتاج أفراد تهيأت لهم العزلة وكانت لهم القدرة فتفاعلت مع تلك تفاعلاً أنتج ما يخدم المجتمع والبشرية جمعاء
|