من مدن الرخاء إلى البلاء

 

مرة اخرى تعود منظمة نايت فرانك  البريطانية frank night ) المتخصصة بشؤون الاستثمارات العقارية والسياحية ومستوى الرفاهية والرخاء على الصعيد العالمي وتنشر تقريرها عن مدن العالم الاكثر سعادة ورخاء وطمأنينة في العيش الرغيد وفق معايير موضوعية شفافة من حيث اختيار السكن المناسب في حاضرة ما ؛ ومايتبعه من رفاه وأمن وسعادة يتمتع بها الناس والمقيمون

 

تابعت مستوى رخاء المدن الكبرى واماكن الراحة والسعادة مركّزا على الحواضر العربية التي تعنينا وكم كانت صدمتي موجعة فور ان رأيت مدينتي التي اعشقها حتى الهيام فقد كان من نصيب بغداد ان تكون الاخيرة وفي المرتبة الدنيا للمدن الاكثر تعاسة اذ سبقتنا العاصمة الصومالية ” مقاديشو  وتليها العاصمة اليمنية ” صنعاء ” هذه المرة وقد اطلعت قبلا على تقارير سابقة من المنظمة المذكورة اشارت الى تفوّق بغداد على تينك المدينتين  وعلى ” دمشق ” ايضا وبعض العواصم الافريقية  مما يشكل تراجعا ملحوظا وكأننا نندفع الى الوراء سنة اثر اخرى في دلالة واضحة بان لاوجود لأي اهتمام يذكر بهذه المدينة العتيدة الخالدة الذكر والاّ كيف نفسّر هذا التدنّي المهول والدرجات الدنيا من التلوث البيئي واللامبالاة التي ابتليت به عاصمتنا الغالية

 

هل لي ان اثير شجنكم ولو قليلا ؟ ، حيث أدرجت المنظمة المذكورة مدينة ” سان فرانسيسكو ” الامريكية كأحدى اجمل المدن التي يهنأ العيش فيها باعتبارها من المدن التي تزخر فيها التعددية في الفكر وانها حاضنة الفكر الليبرالي المدني في ارقى سماته وخصاله التي تتيح للانسان ان يرقى بحياته نظرا للحرية التي يتمتع بها البشر في اختيار العقيدة المناسبة ومبدأ المساواة بين الاجناس البشرية وتحقيق فكرة المواطنة الحقة دون اي اعتبارات عرقية او اثنية او اية خزعبلات تهدف الى التفريق بين الناس ولكن هل يعلم البعض من القرّاء الاعزاء ان هذه المدينة الزاهية العريقة ” سان فرانسيسكو ” التي يدلّعونها اهلها باسم ” فريسكو ” التي تعتبر حاضنة للفكر المتمدن الواسع الافق كانت تسمى ” بغداد ” وتحب ان تتشبه بعاصمتنا نظرا لما كانت تتمتع به من عمق حضاري وإرث فكري حرّ وتعايش جميل بين كل الاطياف التي تشكل مجتمعنا العراقي حيث لافرق بين اصناف المجتمع البغدادي مسلما كان ام غير مسلم ، فالكل سواء يجمعهم حب بغداد متآخين متحابّين متعايشين معا يتجاوران على المحبة والتآصر والتساند ، لايعرفون الكراهية والمقت والنظر الشزر والانتقاص من هذا وذاك اذ كانت بغداد تحتضن القريب والغريب والنازح والغادي والرائح ولم تسأل يوما من ايّ نسلٍ ولد هذا العالم ومن ايّ ارض انجبت ذلك الفقيه ومن اي لسان جاء هذا الشاعر فازدهرت العقول خصبا وتلاقحا فكريا متعدد الالوان واينعت القلوب بالمحبة والحنوّ والمودّة والتفت السواعد مع بعضها البعض لتنتج لنا قيمة حضارية رسخت ببغداد وتعلّم منها العالم كلّ العالم معنى الحبّ واحترام العلم وإجلال الادب الرفيع ومبنى التسامح الديني والتقبّل العِرقي فبرزت الحضارة الاسلامية في ابهى حلّتها وألوانها الخالبة للألباب والساحرة للأفئدة فكانت بغداد منارة ليس للعلم والادب وحده بل واحة للتسامح والرقيّ وسعة الصدر

 

صدّقوا ام لاتصدّقوا ” فريسكو ” مدينة الرخاء الصاعدة والعيش المفرط في الرغد تتمنى ان تتشبه ببغداد وتستعير اسمها تباهيا وتقليدا واعجابا

 

لكن بغداد اليوم تشكو من لوثات لم تعتد عليها قبلا فاتّسختْ اثوابها وامّحى طيلسانها وطمست معالمها وملامحها الجميلة وعبث المخربون والموتورون بشوارعها وساحاتها وتراكمت عليها الاوساخ والنفايات علوّاً حتى فاقت مآذنها وهجرت اللقالق أعاليها وشردت النوارس من دجلتها هربا من وحلها وخلا عبق التاريخ من اسواقها وانقطع حبل المودة والترابط بين شقيقاتها البصرة والكوفة والموصل وغيرها مما يؤذن – لاسامح الله – بتقسيمها وهجرها محبوها رغما فبقيت وحدها شبه خربة موبوءة يعيث برياضها الجاهل والسافل والسارق والمارق ويشعل أوار الفتنة الحاقد والواقد وتدنّت مرتبتها العالية حتى الدرك الاسفل فأضحت بائسة العيش ، نهارها حتفٌ وليلها خوفٌ وحسرتها أف ومغادرتها لهفٌ واحياؤها عنفٌ ولسان اهلها سيفٌ ، فمن اين يأتي الرخاء والسعد والعيش الهانئ الرغيد اذا كان امراؤها لا يهدفون الى اصلاحها ويرضون ان تبقى عاصمتهم مقفرة بعد ان كانت تكتنز غنى واخضراراً وتفيض ثقافة ووعيا وهل يحسن الجهلاء والمغرضون والفاسدون والقتلة والمجرمون وضع لبَنات البناء والاعمار وأسلحتهم مرفوعة بأيديهم يتناوشون المال الحرام نهبا وسلبا وعنوة ويقتلون الشرفاء غدرا وعمدا وغيلة ؟ !اختم كلامي بمثَلٍ  مأثور قاله كونفوشيوس قرأته زمناً بان الشعوب التي لاحواضر ولامدن عامرة لها يصلب قلبها وتقسو روحها ويفسد عمرانها وهل اكثر صوابا مما تلقاه بغداد في هذا الزمن العاثر بالمصائب والكوارث .