ثقافة العنف وعنف الثقافة

 

ما يدعو الى التوقف والتأمل أن العنف قبل أن يقوم بالسلاح يقوم أولاً بالقناعة وبالفكر، أي بالثقافة. فالحروب بأنواعها ، تقوم أولاً، وتتغذى وتبرر ديمومتها، بواسطة شبكة واسعة ومعقدة من القناعات والمواقف الثقافية والنفسية التي تمنح للمحاربين زخماً للتضحية بالنفس وللحقد على الخصوم وتبرير قتلهم . لذلك فان تفسيرنا لأسباب ودوافع تفاقم حالة العنف التي تسود المجتمع العراقي اليوم ، سببه تراكم سابق وعبر سنوات طويلة لمشاعر الالم والحزن والحقد في المجتمع، نجم عن تراكم المعاناة الحياتية المتمثلة بالفقر والقمع والاذلال والخيبات والنكسات الشخصية والوطنية.

 

ان ثقافة العنف والحقد، ارتكزت وقامت على أساس الظلم الوطني والاجتماعي ،الذي شكل بيئة ملائمة لترويج ثقافة وشعارات الحركات اليسارية والدينية المتطرفة التي تبرر الحقد والكفاح الدموي، ضد العدو الطبقي البرجوازي والامبريالي  وضد العدو الكافر والشيطان الاكبر المتمثل بالإمبريالية والصهيونية ، ومنها من يطالب بالثأر والانتقام بالقتل والعنف من فئات وشرائح اجتماعية بأكملها ، على اساس تاريخي غامض . ومن الطبيعي أن تتأثر الثقافة العراقية بثقافة العنف اليسارية التي كانت سائدة في المنطقة. بل ان المثقفين العراقيين شاركوا بصورة فعالة في رفد هذه الثقافة العنفية ، وما جرى من انقلابات دموية بعد العهد الملكي ورفع شعارات الكفاح المسلح والعنف الثوري  ….الخ ، مصطلحات رفعتها الاحزاب والحركات السياسية العراقية لتسوغ  ولتسوق شغفها وشهوتها وهوسها الجنوني في الوصول الى السلطة والحكم دون النظر الى مصلحة الشعب …! ومن كان يعارض العنف واللجوء الى السلاح والقتل من اجل السلطة والحكم كان يعتبر خائنا” وعميلا” .

 

إن جذور ثقافة العنف اثرت بشكل كبير في ما سمي قبل وبعد عام 2003  بالمعارضة العراقية، التي بررت التحالف مع الامريكان وشن الحرب واجتياح العراق وإسقاط النظام السابق . استمرت بالتأثير على اسلوب تفكير السياسيين العراقيين الذين استلموا الحكومة بعد 2003 ، فكان تبنيهم للثقافة الطائفية والقومية المتناقضة تماماً مع مفهوم الوحدة الوطنية، قد أوجد بيئة ملائمة لتفاقم وانتشار العنف وثقافة العنف في المجتمع العراقي و بررت ودعمت ردود الافعال العنفية والمسلحة من قبل المعارضين للنظام الجديد وانبثاق ما سمي بحركات المقاومة والقوى الظلامية السلفية وجماعة القاعدة الارهابية وصولا” الى تنظيم داعش الارهابي، في دوامة من العنف غير المسبوق أودى بحياة  الآلاف من العراقيين وتشريد ونزوح الملايين منهم الى داخل وخارج العراق …

 

ان عقلية العنف والشعارات المتطرفة التي يطرحها بعض السياسيين ورجال الدين والارهابيين، كانت وستظل شعاراتية سطحية ومدمرة، تصب في مصلحة اعداء العراق ، وهي انعكاس واضح لثقافة العنف التي تهيء وتبرر وتخطط وتقنع وتشجع وتثقف الناس ليل نهار على الحقد على الآخر وممارسة العنف ضده، واعتبار الانسان الذي لا يمارسه جباناً وخائناً للأهل وللطائفة والقومية وللوطن !

 

ان المثقفين العراقيين، اليوم امام تحد كبير ولحظة تاريخية فاصلة في مسار وديمومة وحدة العراق وتجانس مجتمعه ! هذا التحدي يتطلب من المثقفين العراقيين العمل على طرح وتكوين مفاهيم ثقافية جديدة  تتميز وتقوم على اساس السلام والتسامح والمحبة ونبذ العنف والتطرف مهما كانت مسبباته وحججه.

 

واذا كانت جميع النتاجات الثقافية والفنية العراقية رغم تنوعها، وخلال أكثر من قرن، تجنبت التطرق للأمور التي تمس مباشرة المسائل (الستراتيجية الموسوعية) الثابتة التي تبنى حولها عادة المشاريع الكبرى التي تقود الوطن ، فإننا اليوم بحاجة الى ثورة ثقافية موسوعية شاملة تتناول مختلف اعمدة واركان وعناصر الثقافة العراقية في التاريخ والفلسفة والسياسة والاديان وعلم النفس والادب وحتى في الفولكلور الشعبي. ثورة بمعنى التركيز على النوع وليس الكم المتماهي مع الحالة السياسية الراهنة ، دون الاخذ بنظر الاعتبار مصلحة الوطن ووحدة ترابه ونسيجه الاجتماعي ..