أحلام جائع

 

 

 قال أبو الطيب المتنبي:

 

ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ

 

                  يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ

 

جَوْعانُ يأكُلُ مِنْ زادي وَيُمسِكني

 

                   لكَيْ يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقْصُودُ

 

  في غبشِ الفضاءِ الراكدِ حولَ رقبتي يتساءلُ الغريبُ عن عناءٍ آخر.. عناءِ البيوتِ الآفلةِ ،  والرؤوسِ المدفونةِ في الرملِ.

 

لمناسبة 9 – 4 – 2003 المواطن العراقي الحالم يقول : كنت احلم أعود أمنا إلى بيتي مع المساء  احمل رغيف الخبز لأطفالي، الثمهم، اضحك معهم، افرح لفرحهم، امسح على رؤوسهم، ونسلم أمرنا لله وننام، ومع اشراقة يوم جديد اذهب إلى عملي مستبشرا لا يحكمني إلا ضميري ، ووقع آهات قديمة بانتظاري منذ غادرت الوطن إلى غربة اخترتها لنفسي منذ ثلاثين سنة مرت صعبة وشديدة في الغربة كنت احسبها بالثواني والدقائق والساعات وإنها سكونُ الأحياءِ في ظلِ معاقلِ الصراخ . مر عمر صعب وهو يقاوم  نفسه متأملا هذه الساعات التي يعيشها اليوم بنكد وبؤس وشقاء وآلام وجراح .  ويقول : عدتُ أتملئ في وجوه الفقراء وآهاتهم  وأرواحهم المتعبة وبكيت على حظوظهم وحظوظي! التي تميل حيثُ يميلُ الألمُ ألمي مكتوبٌ على خاصرةِ الزمنِ، أي زمنٍ؟ أي وجعٍ؟  سنونٍ وأنا على مبعدة، متشوقٌ لأرى وجوهاً منهم كانت في ذاكرتي، كانت تملأُ ليلي، وتؤنسُ وجعي،  ووحدتي، كانت كلَ أنفاسي، ودخانَ سجائري، أنا الملومُ المفتونُ بإخوة الجهاد والدرب الطويل، أولئكَ مَن صدوا وجوههم عن المتعبين والمقهورين وتركوهم كشاة تذبحُ باكية وهم يتفرجون ويتبطرون. عاد المواطن الحالم لوطنه فلم يجد بيتا يسكن فيه، ولا شبرا من ارض العراق يبنيه إلا أراضي الحواسم وهيهات يفعلها .  كل ما وجده في الوطن الذي طالما حلم بالرجوع إليه بعض أقزام صاروا عملاقة ، وبعض صغارا تسلموا مسؤوليات اكبر بكثير من حجمهم ، ويا للمصيبة يا للهول فقد وجد – المواطن الحالم – طغيان التكالب والمصالح الذاتية والأنانيات ، ووجد الإنسان الشريف لم يستطع التعايش مع السارق والمترف بالحرام  . والأمر الذي زاد الطنبور نغمة هو الفساد الذي  يتبعه فساد ، والخراب يتبعه خراب ، وذمم تباع وتشترى وأموال سائبة بأيدي اللصوص والحرامية ، ومسؤوليات تدار ببعض تصريحات المهرجين والنهازين والنفعين الذين كانوا كوم قش مهمل وعفن أصبحوا الآن كما قال الشاعر الشيخ علي الشرقي:

 

قومي رؤوس كلهم     أرأيت مزرعة البصل ،  يا الهي لقد عرت الخطوب وكيف لا تعرو وتجاوز عمر المواطن الحالم الخمسين ولم ينال قبلها شيئا من الحظ إلا المنافي والغربة والسجون والتشريد والقهر والفقر وسوء الطالع، وكل شيء كان يخطر في باله من آهات ولوعات ومصائب ومعاناة ومأساة إلا أن يعود إلى وطنه وطن الخيرات والبركات والنعم فلا  يجد فيه شيئا من هذه في يديه ، ورضي – الحالم –  بان لا يجد شيئا من هذه الخيرات في يديه،  ولكن الشيء الذي لم ولن ولا يرتضيه هو تسلط  وتحكم النكرات الذين لا تاريخ مشرف لهم، ولم يزورا يوما سجون الطغاة المظلمة ، ولا حاضر مجيد  لهم، ولا مستقبل وضاء  ولا  يفكرون إلا بأنفسهم ومليء جيوبهم من الأموال الحرام ثم الحرام ثم الحرام ، فتعسا وتبا وسحقا لمن يثق بهؤلاء ويجدد انتخابه لهم . لأنهم يديرونَ عرباتِ الليلِ كي يلعبوا بعقولِ اللومِ .  يضحكُ المواطن الحالم بدعابته المعهودة، ويديرُ بصرَهُ نحوَ الرؤوسِ المحشوةِ بانينِ الحساب، انهُ يفقدُهم متعةَ الليلِ فينامونَ بعقولٍ ذاهبةٍ نحوَ الخزائنِ،  ونحنُ ننامُ برؤوسِ خاليةٍ من كلِ شيءٍ إلا الألمَ.. ونلوذُ بصمتِ القبور وفي أوانِ الصبرِ نكونُ قد أدمَنا لعبةَ الموت ، طابورٌ من أجسادٍ لَوحَتها شمسُ الخرابِ تتململُ أمامَ بواباتِ التسكع ، فأستمرُ بنوباتِ السؤالِ، هل السماءُ بعيدةٌ إلى هذا الحد ..؟