المدن "لغة" وثقافة وشراكة عالمية سيد العبادي

ربّما الكثير من الأجيال العراقيّة لا زالت تتقبّل تداول "التوليفة" المرحة القديمة تتداولها على ألسنتها خاصّة مع إعادة الاحتلال للطقوس الدينيّة للشارع العراقي بشكلها الطائفي المعروف والّتي لا يمكن أن تكون غير ذلك ومنذ 2003 ولغايات معروفة توقّع الكثير حصولها على ضوء مؤتمر لندن وبتقسيماته الطائفيّة بعد أن غابت تلك الطقوس عن الشارع العراقي تدريجيًّا منذ تأسيس الدولة العراقيّة الحديثة ومع إقبال الناس على العصر الحديث بلهفة وانتشار التعليم وتنامي روح "إثبات الوجود" أمام العالم من جديد ..إذ ومع التنافس العلمي والثقافي بين أفراد الشعب أخذ المواطن يتبارى "هو نوع من الانتقام من ماضيّه الكهوفيّ العفن" للبحث عن الطرفة النادرة للسخرية من تراث مثقل بالأكاذيب يحمل كلّ أدران تعاليم التعصّب الطائفي على مدار قرون كانت خلالها المرأة "والرضيعة" ليستا أكثر من حاضنة تفريخ ملفّعة بالسواد من أعلى الرأس ولأخمص القدم فكان أن بدأ العراقيّون يتداولون كلّ ما هو ساخر من تلك العهود ويشبعوه سخرية للتشفّي ..والتوليفة الّتي لا زالت ماثلة في الأذهان من بين الآلاف من التوليفات الساخرة ؛"أنّ أحد الأوروبيّين زار العراق ردًا لزيارة "علميّة" أبهرت معالمها المتقدّمة العراقي ,صادفت هذه تكون في عاشوراء ,حاولنا فيها إبراز كلّ ما هو متقدّم لدينا أمام عيني الضيف ,لكنّه استغرب لكثرة الأعلام والرايات المرفوعة على أسطح وأبراج معالم الدولة والمنازل فأجابه صاحبنا لتلافي الإحراج "إنّها أعلام لشركات صناعيّة والصور تعود لأصحاب هذه الشركات" لكنّ صادف أن مرّت بالقرب منهم سرادقات لبكاء ولطم وتطبير ما فاجأت الضيف فكاد يغمى عليه لولا أن جاءه الردّ سريعًا: "لا تخف إنّها مجرّد شركات انكسرت فخسرت أموالها وأفلست" ! ..هنا لا أريد أن يشار إليّ من سيعتبرني أتاجر بآلام الناس أو آلام آل البيت ,أبدًا ,لثقتي العالية أنّها لا علاقة لها بآلام حقيقيّة بل لا تعدو أن تكون آلام وهميّة تؤدّى بأداء تقليدي سنوي مصطنع من ضمن أوهام مختلقة انتفخت كثيرًا في العقود الأخيرة تقف خلف تضخيمها جهات دوليّة لأغراض سياسيّة وبشكل باتت غريبة حتّى عن زمن يعتبر قريب ليس بأكثر من قرن فيه كانت تمارس نفس الطقوس لكن برمزيّة أخفّ بكثير ..مدن اليوم الّتي ازدهرت بعيدًا عن الدين السياسي وبجهود مضنية من أبنائها امتلأت اليوم بطقوس تذكّرنا برقصات السحرة أيّام البدائيّة الأولى وهي تشحن حماس إنسان الكهوف للخروج إلى الصيد أو لمواجهة قتاليّة أمام قبيلة أخرى.. هذه الممارسات باتت وكأنّها من متطلّبات حياة اليوم "العصريّة" ووجدت من يعتبرها كذلك! وهي لا تفرق عن من يدّعي أنّ القرآن يحوي علوم العصر! , وبمثل هذا المعتقد غُيّبت معالم حضاريّة حقيقيّة ومعاصرة تعب عليها العراقيّون أظهروا مدنهم بها للواجهات العالميّة العلميّة والفنّيّة وخلال ثمانون عامًا فقط ,فاليوم ما أن تتوجّه لشارع من شوارع بغداد من تلك الّتي كانت تُحسب قبل الاحتلال على أنّها من الدلالات العصريّة الحضاريّة إلاّ وقد مسحت تلك القناعة وعلى الفور ساريات اللون الأسود مرفوعة بكلّ اتّجاه وصور استقرّت في روع الناس على أنّها صور آل البيت وما هي كذلك بما يجب إفهام الناس أنّ آل البيت ليسوا عظماء بأشكالهم بل عظماء بأخلاقهم ..مصر كذلك بما تركته بمدنها بصمات الأحزاب الدينيّة الكهوفيّة دعونا عن بقية مدن وعواصم التخلف العربي بما فيهنّ مدن لبنان.. فبيروت مثلاً كانت فخر للعرب وللشرق عمومًا حتّى منتصف سبعينيّات القرن الماضي قبل هبوب ربيعها! نافست حتّى باريس نفسها بما حتى أنّ أشهر نجوم هوليود بأفلامهم "الجاسوسيّة" المثيرة لم تكن لتستطيع حصد أعلى نسب الدخول الماليّة من شباك تذاكر السينما الا عندما تصور مشاهد الفلم او بعض أجزاءه ببيروت وخاصة أفلام جيمس بوند الشهيرة ..الآن بيروت وبعد ذيوع صيت أحد طواطم الكهوف فيها وفي قلب بيروتنا وبعد أن جعلها مدينة متدينة عادت لعصور الكهوف كبقية مدن الخفافيش الغير متجانسة وأنوار العصر وتلفظ ديمقراطيّة سليمة ورائعة لكيان مجاور نعتبره جميعًا عدوًّا لنا في حين أبنائنا ضمن هذا "الكيان" لن يستبدلوه بجميع المدن الكهوفيّة العربيّة ! ..فنحن في العراق ,ففي مثل هذه الأيام كنا نطمح وفي أعلى درجات الطموح أن يحكم العراق بعد سقوط الطاغية ((فريق عمل)) عراقي وطني للنخاع ومتجانس يمتلئ حبّاً للعراقيين يحسّ بآلامهم وبأحلامهم يحوّل ثروات البلاد وهي كافية جدّاً لأن تستطيع تمكيننا من اللّحاق بأعظم دول العالم تطوّرًا ,وأن يعيد هذا الفريق الحياة لنفوس العراقيين يقضي على أزمات شعبهم الملازمة لهم وأهمّها أوضاعهم الاقتصاديّة المتردّية , يجنب الشعب الحروب ما صغر منها وما كبر ومهما كانت التبريرات أو الحجج , يشيع العدل بين أبناءه يقضي قضاءً مبرمًا على ظاهرة حكم الحزب الواحد أو التفرّد بالسلطة , يعمل على أن تكون السلطة بيد العراقيين جميعًا وبالتساوي مع حضور الكفاءة لا أغلبيّة فيه حاكمة, ولا أقلّيّة تستأثر بالسلطة بسبب مظلوميّة أو انعزاليّة , فالوطن العراق دين للجميع وطقوسه أعياد استقلال وتأسيس واقعي يتماشى مع العصر .. كنّا نتطلّع لسلطة عراقيّة خالصة قلبًا وقالبًا تخاطب العراقيين جميعًا: ( من أراد عبادة الله لدخول الجنّة فذلك الله وتلك سمائه, ومن أراد عبادة الله لإشاعة الفتنة واتّخاذ الدين عصبة وانتماء على حساب الآخرين فسيقصم ظهره وسيقصم ظهر من يقف خلفه ) .. لكن .. ما الّذي تحقّق !؟ .. هي هي .. بل أشدّ تنكيلاً وأفتك حروبًا من ذي قبل, فإن كان اللّص قبل الاحتلال لصًّا واحدًا أصبح لدينا اليوم ألف لصّ ولصّ .. وإن كان للطاغية السابق حمايات بالآلاف فاليوم لكلّ عضو من هؤلاء البلاء الآلاف من الحمايات ,وإن كان المبذّر لأموال الدولة شخصًا واحدًا فاليوم الآلاف من المبذّرون لثروات البلاد, وإن كان في البلاد قبل الغزو آلاف العاطلون عن العمل فاليوم بالملايين ,وإن كان هنالك بضعة من المتاجرون بالدين زمن الدكتاتور فاليوم بعشرات الألوف منهم .. أصبح القتل بعد الاحتلال والخلاص من الطاغية على الهويّة وضياع تريليون ومائتي مليار دولار أمرًا عاديًّا مجرّد أن يتّهم كلّ منهم زميله الآخر وينسب الإجرام إليه يتّهم بعضهم البعض وينتهي الأمر!, أنت من سرق أنت من اختلس أنت من قتل أنت من اختطف أنت من عزل الشعب الواحد بعوازل الخرسان المسلّح أنت من جعلت دول الجوار تتدخّل في شؤوننا وتسرح وتمرح أنت من أغلق معاملنا لكي نستمر باستيراد زبالة دول الجوار على أنّها بضائع مستوردة أنت من اختلق حروبًا تعادل كلّ واحدة منها جميع حروب الطاغية وإن بمسمّيات مختلفة أنت من .. أنت من..  أنت أنت .. أنت