التخلي والإكتساب في ثقافتنا المعاصرة

 

لنبدأ بالسؤال الآتي :لماذا لم تستمر إتجاهات الجيل الجدي من أبناء الأمة العربية من أجيال الثلاثينات والأربعينيات و الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟  تلك الإتجاهات التي كانت قوية بوطنيتها وعروبتها ويقظتها المالكة   لشأنها العام ومبادراتها الخلاقة ؟ ولماذا جنحت قطاعات من الأجيال الشابة العربية عن معركة مستقبلها و مصيرها الثقافي؟  ولماذا أستبدلت الإتجاهات المجابهة والمحاربة عن مصيرها  ، بإتجاهات هامشية غير مسؤولة ؟ .

وقد نجاب على سؤالنا هذا . ولماذا ننسى العولمة و عملية التثاقف القائمة بين الثقافات ، أي بين الأمم ؟

إن من يكتب عن قضايا الثقافة ويجعلها من همومه الأكاديمية لا يمكن له أن يتجاهل إطلاقا أن لكل عصر من العصور عولمته . والتثاقف بين الأمم يجري على قدم وساق  . ومع ذلك تبقى فلسفة الثقافة صاحبة الشأن في آلية التواصل و التثاقف  وما تضعه من محددات بنائية ، تقود عمليات التخلي  والإكتساب  وتوجهها في إطارالمعالم  الرئيسة للشخصية الإجتماعية لكل أمة من الأمم . إذن ما العمل وكيف يجب علينا أن نترجم هذا التوجه بالخطوات العملية ؟

وعندما نريد أن نبدأ بالإجابة ،نتساءل أولا : لماذا الكتابة الآن عن الثقافة العربية المعاصرة وجدلية الثابت والمتغير فيها ، على ضوء إتصالها بثقافات المجتمعات الصناعية التي بدأت تنتقل الى مجتمع المعرفة ، الذي تشكل سلعته المعلومة .

نعم رغم  هذا الواقع وما يكتنفه من حقيقة ، فإننا يجب أن نقر بأن المستقبل فيه ماض وحاضر والماضي فيه حاضر ومستقبل  ، والحاضر فيه ماض و مستقبل . والثقافة التي نتكلم عنها يمكن تعريفها إنثروبولوجيا بأنها  ميرا ث مركب من عناصر إجتماعية وسلوكية ومادية يقوم الأفراد بنقلها من مرحلة تاريخية الى أخرى بفضل تداخلها في سلوكهم الإجتماعي . وقدرة عناصرها الإنتقال من الماضي الى الحاضر إلى المستقبل .

ولا يضيرهذه الدراسة إطلاقا الإعتراف بأن الإجابة في أعقاب هذا التعريف تحتاج الى موسوعة تأخذ بألف باء الثقافة ومكوناتها المادية والإجتماعية والروحية والفكرية وعمليات التخلي و الإكتساب التي تقوم بها خلال نشاط الناس في حياتهم اليومية بالإضافة الى خصائص الثقافة  .. إلخ .

وهذا معناه أن دراسة الثقافة تحتاج الى جهد فريق كبير من الباحثين المتخصصين في شؤونها وقضاياها  ، لأن كل مكون من مكوناتها له علمه وطرقه في البحث النظري والحقلي( التطبيقي) .

متابعة التغييرات

والحق أن ما تذكره دراستنا هذه عن مفهوم الثقافة يريد أن ينبه الى أهمية متابعة التغيرات والتطورات التي تتم في النسق الثقافي . لأنها حالة بنائية متغيرة بإستمرار ، تدخل في سياق الأمن الثقافي الوطني والقومي .

ويطمح هذا القول أن يشكل شرعية منهجية للتنويه أن الثابت و المتغير في الثقافة العربية المعاصرة في عالم يشهد تغيرات  سريعة طالت كل مكونات الثقافة  ، وفعلت فيها ما فعلت من  تغيير في المضامين و الوظائف ولا بد أن يؤخذ هذا بكل حقائق التواصل القائم بين الثقافات غداة ثورة المعلومات والإتصال  و الهندسو الوراثية  وعلم  وتنيات النانو .ولا شك أن تلك الحقائق البنائية (نسبة الى البناء الإجتماعي)تشكل مدخل الدراسة الذي يرى من منظور الإتجاه الإنثروبولوجي الثقافي . وحيث أن الثقافات ليست على سوية واحدة  ، من حيث مكوناتها وحيويتها وقدرتها عل إنتاج الجديد  ، والقيام بعمليات التخلي والإكتساب الموجه من قبل فلسفة الثقافة ، التي تقرر شكل ومضمون العلاقة بين الأنشطة الثقافية الكثيرة والمتنوعة الموجودة في ثقافات العالم، ومن ثم إنتاج المفاهيم المسكونة بمضامينها ، لأن الثقافات أصلا متنوعة بقيمها الإيمائية و الأخلاقية العليا .

ويرى المدخل في إطروحتنا عن  عمليتي التخلي والإكتساب في الثقافة عموما ، وفي الثقافة العربية على وجه الخصوص ،أنها محكومة بإمكانات الثقافة في إنتاج العناصر المادية ، والإجتماعية ، والفكرية إلخ .. ومحكومة أيضا  إلى الحيوية التي تتمتع بها ، وهي تقوم  بتحقيق الإستجابات المطلوبة للحاجات المتجددة على ضوء حقائق التغيير.

إن عمليات التخلي والإكتساب عندما تكون رهن الخصائص السابقة للثقافات الجديدة فإنها تتم بموجب ما يسميه العلم الإنثروبولوجي الإعتماد الوظيفي المتبادل القائم بين الثقافات من جهة وداخل كل ثقافة من جهة أخرى ، حيث يتم تأثير الثقافات الأكثر تطورا وحيوية ومقدرة في إنتاج الجديد في الثقافات الأضعف و الأقل حيوية (ديناميكية ) ، والتي يسميها العلم الإنثروبولوجي بـ(الثقافات القديمة – التقليدية ) وهذا مفاده أن الثقافة العربية تقوم بعملياتها تلك بناء على حضور و تواجد الثقافات المتقدمة فيها . وهي ، إذ تكتسب الهاتف المحمول ” الموبايل ” على سبيل المثال فإنها تكتسبه بقوة الحاجة  وتحت تأثير تلك الثقافات  وقل ذلك في الملبس والبناء والسيارة و الإنترنيت  .. إلخ  . والثقافة العربية تقوم بذلك إما بفعل التقليد أو الإستجابة لروح العصر ومعطياته  وما تفرضه وتقرره الثقافات المتقدمة وتقرره من عناصر مادية وفكرية و إجتماعية وترفيهية  ، وما تستحدثه من حاجات لم تكن معروفة من قبل .

وبما أن حقائق الحياة الاجتماعية الحضارية تقر بوجود تباين وتنوع في الثقافات،فإن العلم الأنثربولوجي الثقافي يأخذ بهذا التنوع  وحقائقه الثقافية،من أجل أن ينبه إلى ضرورة معرفة الآثار المترتبة على التواصل القائم بين الثقافات في سياق الاعتماد الوظيفي سالف الذكر.

والمعروف أن الثابت والمتغير في الثقافات المتقدمة والثقافات التقليدية لا يتم على وتيرة واحدة وهذا معناه أن الثقافات المتطورة قادرة دائما على تجاوز حدودها الجغرافية والثقافية،وفرض نفسها وما تقرره من استجابات محكومة إلى المحدد الموضوعي للحاجات والاستجابات الذي نعني به مساحة   الأرض وموقعها الجغرافي ومكانتها الحضارية.وثرواتها،وقرارها المستقل والسكان وقيمة  الإنسان..الخ.

الاعتماد الوظيفي

وعلى ضوء ما تقدم نمضي نحو عمليات التخلي والاكتساب التي تقوم عليها الثقافة العربية في سياق الاعتماد الوظيفي القائم  بينها وبين ثقافة المجتمعات الصناعية المتجهة بخطى رزينة نحو مجتمع المعرفة،فإننا نلاحظ وبيقين معرفي أن تلك العمليات تتم بنوع من حضور وتواجد ثقافة المجتمعات المتقدمة وتواجدها كما بينا سابقا؛لأنها  ثقافات عالية،على حد تعبير ابن خلدون..حيث أن المغلوب يقلد الغالب.إذا وبما أن الثقافة العربية تقوم بعمليات  التخلي والإكتساب على ذلك النحو وتلك الكيفية،فإن الثابت والمتغير فيها يتم لصالح تلك الثقافات.

وإذا أخذنا على ضوء تلك العلاقة بين الإنسان وثقافته في سياق القول الأنثروبولوجي:..قل لي ما ثقافتك  أقل لك من أنت؟. فإننا نسأل ونتساءل:.هل يا ترى تترك تلك العلاقة بين الثقافة العربية  وثقافة المجتمعات الصناعية غير المتكافئة آثارها في شخصيتنا الإجتماعية؟!

وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك،فهل تعيش هذه الشخصية الإزدواج الثقافي الذي قال عنه الدكتور علي الوردي،وهو يحلل شخصية الفرد العراقي،الذي قال عنه شيخ المربين العرب الدكتور حامد عمار،وهو يحلل شخصية الفهلوي في دراسته ذائعة الصيت: في بناء البشر _دراسات في التغيير الحضاري والفكر التربوي،ثم ما هي الآثارب المترتبة عليه في سلوكنا السياسي والإجتماعي والأخلاقي!.

والحق إن الذي خلصنا عليه لا ينكره إلا مكابر،وإن كنا نختلف حوله بالتأويل انطلاقا من حقائقه البنائية،وظواهره الاجتماعية،كما يقول العلم الإنثروبولوجي، من أن مهمته.. وضع الظواهر على المعاني أولاً،واكتشاف القوانين ثانياهنا نعاود لنكرر السؤال  هل اتجاهاتنا الاجتماعية والفكرية والسياسية والأدبية..الخ تتأثر قليلا وكثيرا بذلك الخليط الثقافي الذي ينتج عن عمليات التخلي والإكتساب؟

والخليط الثقافي الذي يعد لنا في المخابر الثقافية الأورو-أمريكية ،الذي قال عنه الشاعر الأمريكي البريطاني ت.س إليوت في كتابه:- ملاحظات حول تعريف الثقافة .

ملاحظات ختامية حول تعريف الثقافة

يريد الكلام السابق الذي ذكرناه عن إشكالية الثقافة العربية أن يستكمل الأسئلة السابقة بسؤال ، قد يمثل خلاصة لهذه الأسئلة  والدراسة أيضا  ، وهو ما العمل حتى يمكن للثابت  المتغير في ثقافتنا العربية بكل أبعادها “أنساقها”الوطنية والقومية أ ن ينأى به عن الإعتماد الوظيفي القائم بين ثقافتنا العربية وثقافة المجتمعات الصناعية ، الذي يتم لصالح  هذه الثقافة الأخيرة ؟ !) وهل لنا بتخطيط ثقافي يضع في إعتباره الأبعاد المحلية و الوطنية والقومية للثقافة العربية بعيون مسقبلية ، وعمل على تغيير المعادلة في عمليات التخلي و الإكتساب  ؟ ، بحيث تجري هذه العمليات لصالح شخصيتنا الإجتماعية العربية ، وإتجاهاتها النابعة من أهدافها المصيرية ، ومن مصالحها في التطور والتقدم  ومن همومها المستقبلية الناتجة عن التحديث التي تواجه امتنا العربية ، من الأمس الى اليوم .يتعين على فلسفة الثقافة الغنية أن تعبر عن الأمة العربية ، وفي المقدمة القطاع الجدي المهموم بإستعادة أمته لدورها الحضاري و المالكة أيضا لهموم الأجيال الشابة  تطلعاتها ، تلك التي تبحث عن مستقبل لإمتها في عالم الغد  على أن تمتلك الثقافة كل شروط تطورها و تقدمها وخصائصها الإجتماعية  وأهدافها المصيرية ، والإرادات المتحدة مع معركة المصير .