مئة عام على معركة الشعيبة الخالدة |
تمر علينا الذكرى المئوية لمعركة الشعيبة الخالدة التي جرت بتاريخ 14 نيسان 1915 عندما تناخى العراقيون ومنذُ دخول الإنكليز ولاية البصرة لغرض الذود عن العراق ومنع الاحتلال الإنكليزي من أن يطأ أرض العراق . فكان الغليان على أشده في العراق من أقصاه إلى أقصاه حيث تضافرت خلاله جهود رجال الدين والنخب الوطنية والمثقفين والعسكر، لغرض التصدي للإنكليز, وأخذت مقاومة العراقيين للإنكليز أشكالاً متعددة بعد أن تنامى الشعور الوطني لديهم تبعا للمتغيرات في العالم وما يحمله العائدون للوطن من الضباط الذين كانوا يستخدمون في الجيش العثماني أو جيش الحجاز أو في الشام أو من خلال وسائل الثقافة الأخرى مثل الأخبار والصحافة والمتغيرات وما أحدثته الأحزاب والجمعيات والمنظمات من وعي وطني ، والذي تجسد من خلال النداءات والبرقيات التي اطلقها وجهاء وزعماء وشيوخ البصرة بعيد الانزال البريطاني في الفاو ، حيث دعوا رجال الدين في كربلاء والنجف والكاظمية يطلبون فيها مساندتهم في محاربة القوات البريطانية في 9 تشرين الثاني 1914 وقد جاء نص البرقيات (ثغر البصرة، الكفار محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على بلاد الإسلام، ساعدونا بأمر العشائر في الدفاع) . كما وبعثوا برسالة أخرى حاولوا فيها استنهاض همم العلماء الأعلام جاء فيها (بلغوا حجج الإسلام، القرآن والمواعظ تلوناها وبرقياتكم إلى العشائر نشرناها فلا ينفع ذلك إلا الإقدام بأنفسكم، الأقوال بلا أفعال تذبح الإسلام ولا نعلم إن الجهاد واجب على العامي ولا يجب عليكم المعلوم قدومكم يهيج الإسلام، فالله الله في حفظنا) . وقد حملت هذه البرقية تواقيع كل من إبراهيم المظفر وجاسم العلي والسيد مهدي الموسوي الكاظمي والحاج موسى العطية والحاج جعفر العطية واحمد كردت، وما إن انتشرت هاتان البرقيتان في الحوزات العلمية في النجف وكربلاء حتى استجاب على الفور المراجع العظام لهذا الحدث و أوجبوا بفتوى على ضرورة الجهاد دفاعا عن بيضة الإسلام وعندما اتخذت المدن العراقية في الفرات الأوسط وبغداد طابع النفير العام، وخلال هذه المدة برزت تيارات دينية من كبار المجتهدين ورجال الدين الآخرين الذين قاموا بأدوار قيادية بارزة في حركة الجهاد سواءً بتصدرهم الدعوة أم بإشرافهم على تنظيم التطوع للمجاهدين، ومن ثم مشاركتهم العملية في القتال، وأصبحت كربلاء والنجف والكاظمية وبغداد آنذاك مراكز أساسية لتجمع وانطلاق المجاهدين منها إلى جبهة الحرب في البصرة .العشائر العراقية والدعوة للجهاد وتنفيذاً لدعوة العلماء بوجوب الدفاع عن البلاد الإسلامية فقد خرج رجل الدين السيد محمد سعيد الحبوبي يوم 15 تشرين الثاني 1914 من النجف في موكب يصحبه جماعه من أصحابه وبعد نزوله في كثير من المدن والعشائر وصل الناصرية في منتصف كانون الثاني1915 . وكان أثناء مكوثه في الناصرية دائب الحركة حيث صار يتجول بين العشائر ويرسل أتباعه من الشباب كباقر الشبيبي وعلي الشرقي إلى العشائر البعيدة لحثهم على الانضمام للجهاد كعشائر الغراف. وقد وضعت الحكومة العثمانية تحت تصرفه مبلغاً من المال لينفقه على تجهيز العشائر، فاجتمع لديه منهم أعداد كبيرة. وفي 19 شباط 1915 غادر الحبوبي سوق الشيوخ متوجها إلى الشعيبة وتبعته العشائر تحملهم المئات من السفن الشراعية وهي تمخر مياه بحيرة هور الحمار، ويقدر عددهم بأكثر من 30000 من المشاة و 10000 فارس. وقد التحق معهم حوالي 15000 جندي فتكون من الطرفين الجناح الأيمن للقوات العثمانية في هذه الحرب .ولم تكن قبائل المنتفك وحدها التي وجه إليها العلماء أقصى جهودهم في دفعها إلى الحرب المقدسة حيث أن ابن المجتهد الأكبر في النجف محمد كاظم اليزدي وصل العمارة في كانون الثاني 1915 يدعو عشائرها إلى الجهاد فسرت عدوى تلك الدعوة عن طريق العشائر إلى أهل الحويزة الكائنة في منطقة الشيخ خزعل شيخ المحمرة . كما خرج من النجف في 14 تشرين الثاني 1914 ركب آخر من المجاهدين برئاسة السيد عبدالرزاق الحلو وتسعة من أتباعه وبعد وصوله إلى السماوة بيومين وردت برقية من الوالي العثماني جاويد باشا الذي كان في البصرة يطلب منه التوجه إلى البصرة. دور العشائر العراقية في معركة الشعيبة 12-14 نيسان 1915 لقد برز دور العشائر العراقية واضحاً خلال معارك الشعيبة الشهيرة عندما شن العثمانيون هجومهم لاستعادة مدينة البصرة وطرد البريطانيين . وكان القائد العثماني سليمان العسكري قد وزع العشائر على ثلاثة محاور رئيسية وجعلهم تحت قيادة بعض الشيوخ وبإمرة عدد من ضباط الجيش العثماني السادس . حيث جعل عشائر بني لام وعشائر الأحواز التي استجابت لدعوة الجهاد في المحور الأيسر، وجعل عشائر ألبو محمد والسواعد والسودان وألبو دراج في المحور الأوسط أو المحور المركزي وجعل عشائر المنتفك بقيادة الشيخ عجمي السعدون في المحور الأيمن وجعل العشائر الأخرى إلى يسارهم .وأعتمد سليمان العسكري على شخصيات وطنية لها مكانة شعبية أو دينية أو رئاسة فأناط بها قيادة المجاهدين ومن الشيوخ عجمي السعدون وعبدالله الفالح السعدون وخيون العبيد وبدر الرميض ومبدر الفرعون وكثيرون من شيوخ العشائر في الفرات الأوسط، كما اشتركت عشائر الفرات الأوسط وزبيد وربيعة وبني لام في معركة الشعيبة. فقد كان المجاهدون يفدون عن طريق نهر الفرات من المسيب والهندية والديوانية وكربلاء والنجف والى هذا المعنى أشار الطاهر بقوله : ” استجابت العشائر للدعوة الدينية التي نادى بها علماء الدين للدفاع عن البلاد والمطالبة باستقلالها وهذه أول مرة تقف القبائل صفا واحدا خارج حدود القبيلة”. إن اختيار سليمان العسكري الناصرية كمنطلق للهجوم على البريطانيين في الشعيبة يرجع إلى قربها من منطقة قبائل المنتفك المساندة بغالبيتها بزعامة الشيخ عجمي السعدون للعثمانيين، على اعتبار أن ذلك سيؤمن ظهر الهجوم الشامل على الشعيبة. وقد رفض العسكري إمداده بفرقة نظامية من حلب بعد إعتماده على استخدام قوات العشائر العراقية وتنسيق حركتها مع الجيش. لقد اختلفت المصادر في تحديد عدد قوات المجاهدين من أبناء العشائر الذين ساهموا في معركة الشعـــــــــــــــــــيبة 14-12 نيسان . 1915فقد أشارت بعض المصادر التاريخية الى أن عددهم بلغ بين 15000-10000مقاتل. في حين اشارت بعضها الى أن عددهم بلغ 20000 أما علي الوردي فيشير أن عدد المجاهدين حسب المصادر العثمانية كان 20000 وقدره آخرون بـ 50000 ولعل الفرق يعود إلى إدخال رجال العشائر الكردية في المجموع العثماني. وهو على الأرجح الأقرب إلى الدقة. ويشير بعض الباحثين إلى أن عشائر من العرب والأكراد قد تجمعوا في الناصرية والشعيبة ما يقارب 1000 مقاتل. في حين تشير المس بيل بأن متطوعي قبائل الفرات كانوا 9000 فضلاً عمّا يزيد على 1000 كردي. وفي الوقت نفسه لم تكن قوات المجاهدين من أبناء العشائر بعيدة عن خطط القيادة العثمانية، فقد قرر سليمان العسكري الذي تجمعت قواته في 10 نيسان 1915 بالقرب من النخيلة، أن يجري الهجوم على الشعيبة من الجانب الأيمن بقوات المجاهدين تحت قيادة مندوب أزمير ضياء بك والشيخ عجمي السعدون. ومن الجانب الأيسر بقوات مجاهدي الحبوبي وعبدالله الفالح وخيون العبيد ، من جهة تربة الإمام أنس بن مالك ويختلف القائد العثماني مقبل بك (مؤلف كتاب حملة العراق) مع هذا الرأي فيشير إلى أن توزيع المجاهدين من أبناء العشائر في قوات سليمان العسكري كانت على النحو الآتي : الجناح الأيسر الذي كان يقوده محمد فاضل باشا الداغستاني كان فيه حشد من العشائر. أما القسم المركزي ففيه نحو 6000 رجل من العشــــــائر. وفي الجناح الأيمن كان فيه أفراد قبائل يتراوح عددهم بين 15000 -10000 مقاتل .لقد اتبعت العشائر العراقية في قتالها الى جانب الجيش العثماني ، نفس ستراتيجية الغزو القديمة لقتال البريطانيين، وقد تم تشكيل القوى العشائرية على عجل وقد تعاظمت فعالياتها خلال الأشهر الخمسة الأولى من الحرب حتى بلغت ذروتها أثناء معركة الشعيبة . وكان عجمي السعدون أبرز قادة المجاهدين وقد حكيت حوله أساطير كثيرة فقد كان يهاجم المفارز البريطانية ولاسيما الخيالة منها فينقض عليها على رأس فرسانه. وقد حاول البريطانيون وداهيتهم كوكس إغراء عجمي السعدون بشتى الوعود إلا أنه رفض ذلك ولم ينقلب على العثمانيين إلى أن وضعت الحرب أوزارها. والى هذا المعنى يشير القائد تحسين العسكري بقوله : ” أن عجمي السعدون انجد لواء من الجيش العثماني وخلصه من أسر البريطانيين وأوصله إلى الناصرية وقدم له ما يقضي من أرزاق ونقليات ” وازاء هذه الخدمات الحربية فقد منحته السلطات العثمانية لقب “ميرميران” .ولبى بدر الرميض رئيس عشيرة آلبو صالح من قبائل بني مالك دعوة الجهاد لقتال البريطانيين وأقسم اليمين في سنة 1915 في الشعيبة أنه لا يهادن البريطانيين ولا يعقد حلفا مع الإدارة البريطانية وظل وفيا لقسمه هذا فلم يعترف بالإدارة البريطانية .ومن الشيوخ الآخرين الذين اسهموا في معركة الشعيبة عبدالواحد الحاج سكر ومحسن أبو طبيخ. ويشير أبو طبيخ إلى ذلك بقوله : ” ذهبنا إلى الشعيبة والتحقنا بالحبوبي كما التحق به عموم عشائر المنتفك تحت قيادة عجمي السعدون ” كما انضم قاصد الناهي وفرهود بن عبدالله الفندي من شيوخ الحجام إلى العثمانيين في الشعيبة . كما اشترك حميدي بن فرحان باشا شيخ عشيرة شمر الجربا على رأس مفرزة من رجال شمر في هجوم عثماني على الحامية البريطانية في الشعيبة في 12 نيسان 1915 . وكان من المقرر أن يؤلف شيوخ الفرات فرقة من الفرسان غير النظاميين تشغل الجناح الأيسر ويحافظ عجمي على الجناح الأيمن، ولكن لم يتقدم شيوخ الفرات خطوة واحدة إلى خطوط النار خاصة وأن القائد العثماني سليمان العسكري لم يحسن استقبالهم فكانوا في المؤخرة، وبعد هزيمة العثمانيين في الشعيبة قفل الشيوخ عائدين إلى ديارهم. ويذكر الطاهر أنه بعد ثلاثة أيام من القتال وخطأ القيادة إنتحر القائد سليمان العسكري. وفي صبيحة اليوم الثالث من معركة الشعيبة انسحب قائد مجاهدي العشائر الحبوبي ومعه خيون العبيد وبعض الرؤساء إلى الناصرية. ومع ذلك فقد استمرت بعض العشائر في القتال حتى بعد انتحار سليمان العسكري، فقد وضع علي بك الذي خلف العسكري رجال عجمي في الجانب الأيمن كما وضعت العشائر الأخرى في الجانب الأيسر في الشعيبة. وتشير المصادر البريطانية الى دور القناصة العرب من ابناء العشائر ، الذين كانوا مصدر إزعاج للقوات البريطانية. وقد كبدت القوة العشائرية خسائر جسيمة في الأرواح خلال اليومين الأولين من معركة الشعيبة . الا أن عدم التنسيق بين القيادة العثمانية وقادة العشائر المقاتلة أدى الى مصاعب جمة في أمر إعاشتهم وتموينهم، فكان ينقصهم السلاح والمؤن والكفاية والقيادة ووسائل النقل. ولم تسع هذه القيادة إلى تنظيم المجاهدين وتدريبهم على فنون القتال المنظم ولاسيما أنهم قضوا مدة طويلة في منطقة الناصرية بلغت شهرا ونصف الشهر قبل الشروع بالحركات والى هذا المعنى يشير الحسني بقوله : ” جابهت القيادة مصاعب كثيرة في أمر جمعهم فكانت الأسلحة التي بأيديهم غير متناسقة ولا موحدة فهذا يحمل بندقية إنكليزية وذلك “موزر” وهذا بيده سيف “. ومن جهة أخرى فإن اختلاط العشائر بالقوات النظامية في معركة الشعيبة أدى إلى صعوبات جمة في القيادة و السيطرة عليها وتوجيهها الوجهة المطلوبة . دور العشائر بعد معركة الشعيبة بعد أن تم تراجع وانسحاب جناحي الجيش العثمانية الأيمن والأيسر (عند الشعيبة وشمال القرنة) بقيت جبهة المركز على دجلة، وفي خلال اعتبارات الحصول على خطوط دفاعية متقدمة لحماية البصرة كان التقدم الجديد نحو العمارة ويذكر (نيكسون) بأن التحشد العثماني في شمال القرنة ينطوي على هجوم يعد في هذا الاتجاه، ولهذا يتوجب عليه أخذ زمام المبادرة بغية السيطرة على مدينة العمارة، من حيث أن احتلالها يشكل قاعدة جيدة للسيطرة على القبائل والعشائر العراقية القاطنة في حوض دجلة. كما رأى باريت القائد البريطاني أن يكون التقدم لاحتلال العمارة لما يتركه من تأثير معنوي على العشائر العربية. واستنادا لكل هذه المبررات أمر القائد البريطاني العام الفريق طونزند في 11 مايس 1915 بإخراج القوات العثمانية من مواقعها في شمال القرنة وأن يستمر في تقدمه شمالا حتى يحتل العمارة . لم تقف عشائر العمارة موقف المتفرج إزاء الغزو البريطاني فقد حشدت قبائل العمارة في صخيريجة استعدادا لمواجهة القوات البريطانية. وهاجمت العشائر خطوط المواصلات البريطانية والى هذا المعنى أشارت المس بيل عن تعرض بعض سكان الأهوار للقوات البريطانية وقطعهم خطوط التلغراف أو سلبهم للذخائر الحكومية من السفن أو الزوارق المحلية الراسية. وعلى الرغم من تقدم قوات الغزو البريطانية ، ورجحان كفتها العسكرية بعد احتلالها لبغداد وتقدمها على طول نهر الفرات شمالا واحتلالهم لتلال حمرين في ديالى وشنهم لهجومها الناجح في ربيع 1918 فان مقاومة العشائر العراقية الاصيلة لقوات الاحتلال البريطاني لم تتوقف وتوجتها بثورة العشرين الخالدة 1920 .
|