قد نجد بلداناً اجمل منظراً واكثر عمراناً وربماً اكثر احتراماً لبني البشر يستقبلونك بتحية ويودعونك بابتسامة ( وهذا طبعاً عندما تكون اوراقك الثبوتية حسب القانون) وينجزون لك اعمالك بمهنية وصدق ، وقد يمنحونك جنسيتهم او الاقامة الدائمة عندهم اذا كنت من رجال الاعمال او من ذوي المقامات العلمية الرفيعة او استدعت حالتك الانسانية المساعدة لكتهم لن يتمكنوا ابداً من من ان يملؤا كيانك الانساني بالأحاسيس والمشاعر التي تجدها حين تمرض او تستوحش او تخلو الى نفسك خلوة غريب فارق الاوطان فيهتز لديك حنين من اعماقك وتلتهب مشاعر وتهيج احاسيس يصعب كل امان الدنيا وزبرجها وزخرفها ورفاهها ونعيمها وعلمها وتقدمها ان يجد لها ما ينقع الغليل ويطفيء نار الشوق والحنين ولعل هذا ظهر في قول الرسول الأكرم (ص) وهو يودع مكة المكرمة مهاجراً صوب المدينة إذ قال : (...........ولولا أن أخرجت منك ما خرجت ) ( مسند أحمد ، ج٤ ، ص٣٠٥)
وهو ايضاً ما دعاه لان يدعو حينما نزلت الحمى بعددٍ من الصحابة منهم ابي بكر وبلال الحبشي وعامر بن فهيرة فهاج الحنين بهم فأنشدوا شعراً يبدو عليه التأوه والحزن ومنه قول بلال :
ألا ليت شعري هل أَبيتَّن ليلةً * بوادٍ وحولي اذخرٌ وجليلُ
وهل أردِنْ يوما مياه مجنّةٍ * وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ
فقال الرسول (ص) : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد) ( مسند أحمد ج٦، ص٢٦٠ )
وتكاد تكون نفس المشاعر الإنسانية التي بثها السياب في رائعته ( غريب على الخليج ) حينما قال : ( ....
.....صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
.كالمد يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي : عراق
و الموج يعول بي : عراق ، عراق ، ليس سوى عراق ....) فليس من فرقٍ بين رسولٍ أو وصي أو أديب أو شاعر ، فمشاعر الإنسان واحدة ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، إن عواطف الحب للوطن الأم ، ومشاعر الانتماء والاحساس بوجود الذات ليست تعابير ادبية يجيدها الشعراء بل هي حقائق ووقائع أثبتها علم النفس الحديث بالتجربة والبراهين . قد يتمكن بنو البشر من التكيف مع الوطن الجديد ويستطيعون الابداع فيه ومواصلة الانتاج الفكري والأدبي ولكنهم لن يتمكنوا من كبح مشاعر الغربة والاحساس بالوحدة على مدى الايام فلابد لهم من لحظات يعتصرهم فيها الالم ، ويكابدون فيها المعاناة ، نعم تختلف هذه اللحظات من فردٍ لاخر حسب العمل والعمر والقدرات الذاتية فهي بين من تفتك به حد المرض المعبر عنه طبياً ( الحنين الى الوطن home sickness ) والذي لا علاج له إلا بالعودة الى الوطن الام وبين من يتمكن من كبتها ليعانيها هو ولا يكاد يُشعِر بها احدا . ما نريد قوله ان ليس ثمة من يجد وطناً بديلاً لوطنه وان وجد فلن يكون له كوطنه . مما قاله الراحل ياسر عرفات في ذات يوم : ان الفلسطنيين باتوا يريدون قبوراً لموتاهم في وطنهم ذلك من فرط التشرد والتغرب في بلاد الله العريضة . قد يجد الغريب في غربته ما يشيب منه الفؤاد فمع الحنين الى دار الاوطان هناك ذل الحاجة في بعض الاحيان ومع القلق على مستقبل ابنائه من البيئة التي يعيش فيها - إن كان من ذوي العيال - هناك الارق من المستقبل المجهول الذي ينتظره في كبر سنه أوعجزه أو مرضه - إن كان أعزاباً أو تغرب منفرداً - كل ذلك من حماقات ترتكبها الأنظمة المستبدة أو فتنٍ تركب الرؤوس الخاوية فلا تفكر في عواقب الأمور ولا ترى غير ذاتها الموهومة بأنواع الخرافات . فلا ينبغي لاي حر ووطني مخلص وعاقل مبصر ان يعيد آلام الغربة أو يهيء لها ما استطاع الى ذلك سبيلا . نعلم ان الاماني غير الواقع وان عالم المُثُل وجمهورية افلاطون لم تكن سوى في عقله الموهوم ولكن هناك فرق كبير بين المتمثل بقول الكميت بن زيد الاسدي : ( إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركباً *** فما حيلةُ المضطر إلا ركوبها ) وبين المتمثل بقول ( شمشون ) البطل الاسطوري اليهودي : (عليَّ وعلى أعدائي ) . اللهم إن وطننا بعينك فاحمِه يارب انك سميع مجيب .