"الإسلام هو الحل" بمظلة النيتو المشرك بدعوى نصرة الجهاد ضد الحكام المستبدين، فلابد أن ننتظر من مشايخ الفتنة من السنة والشيعة إجماعا على تحرير فتوى تؤثم السلف من المسلمين الذين ركنوا لحكام مستبدين منذ سقوط الخلافة الراشدة، ودعوة المسلمين إلى يوم الدين بإقامة ركن الجهاد في المسلمين بالمسلمين.
في أوج سنوات الحرب الأهلية التي أدمت بيوت المسلمين في الجزائر، كتبت في اليوم الموالي لمذبحة شارع العقيد عميروش تعليقا في أسبوعية "الوجه الآخر" تحت عنوان: "دعونا نموت بشرف" وكان قد كبر في صدري مشهد جثث الأبرياء التي مزقها التفجير الإرهابي، ورأيت فيها إهانة للجنس البشري في المقام الأول، وفعلا آثما ممسوخا ينسب للإسلام. ولم يكن وقتها يهمني الكيل مع من كان يكيل بميزان "من يقتل من؟" لأن القاتل الحقيقي كان اسمه الفتنة العمياء، وبالتبعية كل من كان طرفا في الفتنة من السلطة أو من المجاميع المسلحة.
حق المسلم في الموت بشرف
المشهد ذاته وهو يعاد إخراجه في بلاد الشام بين فئتين مسلمتين منغمستين في أوحال الفتنة العمياء، والتقاتل على متاع الدنيا تحت أكثر من عنوان مزور كاذب، يوجب على كل مسلم أن يصرخ ملء الفم في وجه القتلة: "دعوا المسلمين يموتون بشرف" وإذا كان قد هان عندكم دم المسلم، ولم يعد يرتد لكم طرف لما تقترفه أيديكم الآثمة من جرائم، فهلا فتحتم للغلابة من المسلمين جبهات قتال شريفة مشروعة دفاعا عن أراضي وأوطان المسلمين المغتصبة، يشترون فيها آخرتهم بدنياهم، بجهاد لا غبار عليه، عسى أن يكتبوا عند بارئهم شهداء بدل أن يذبحوا في السر والعلانية كما تذبح الخراف.
أي ذنب ارتكبه بالأمس ركاب حافلة شارع العقيد عميروش، أو كشافة مستغانم وأهل الرمكة، وسيدي موسى، وكثير من أهل جغرافية الفقر زمن الفتنة بين المسلمين في الجزائر؟ وأي ذنب ارتكبه اليوم طلبة كلية الهندسة بدمشق، أو طلاب العلم في حلقة شهيد المحراب المغفور له العلامة البوطي، والآلاف من نساء وأطفال وشيوخ حمص، وحلب، وريف دمشق؟ ومن يحمل وزر دماء مائتي ألف ضحية قتلتهم شهوة السلطة عند طرفي الفتنة في الجزائر؟ ومن يجير قتلة قرابة سبعين ألف ضحية في فتنة ليبيا، ومثله اليوم في بلاد الشام، وقبل ذلك في الفتنة المستديمة بين العراقيين؟
"ما الذي ألم بالأمة الإسلامية حتى تتحول أراضيها إلى ساحة لتقاتل المسلمين فيما بينهم بهذه الشراسة المستحلة لدم البشر، والبهيمية الصرفة التي حرمها الإسلام، ويستنكرها المشترك من القيم الفكرية عند البشر؟''
مثل هذه الأسئلة تظل قاصرة ما لم تفجر السؤال الأهم، الذي بات البحث عن جواب شاف له فرض عين على كل مسلم: "ما الذي ألم بالأمة الإسلامية حتى تتحول أراضيها إلى ساحة لتقاتل المسلمين فيما بينهم بهذه الشراسة المستحلة لدم البشر، والبهيمية الصرفة التي حرمها الإسلام، ويستنكرها المشترك من القيم الفكرية عند البشر؟
من يحاسب من دعاة الفتنة؟
لقد أغلقت بوابة الفتنة في الجزائر، وحمدنا للساعين إليها سعيهم للسلم والوئام، حتى وإن كان كتاب الفتنة قد طوي دون أن نكلف أنفسنا البحث عن جواب شاف للسؤال الذي كان يطرح على كل عاقل أن يطرحه، وفي طليعة العقلاء منهم نخبة العلماء، والفقهاء، وأهل الرأي من الصالحين: كيف ولماذا سمحنا لنار الفتنة أن تنشر لهيبها يحصد أرواح أهلنا، وتهين المسلمين بالقتل البربري البهيمي أكثر مما كان يهينهم غلو المفسدين المستبدين من حكامهم؟ ولماذا خلد الأخيار من الناس إلى الأرض، فكانوا لأجل ذلك شركاء في الدماء مع القتلة من الفريقين؟ وكيف غفلنا وقتها عن محاسبة شيوخ الفتنة وهم يفتون لهذا الفريق أو لذاك بجواز القتل: باسم "حق الطاعة الواجبة لولي الأمر" هاهنا، وباسم "محاربة الطواغيت" هنالك، يلوون أعناق المحكم من التنزيل، ويقولون عن الله الكذب.
ولو أننا سألنا وقتها الشيخ القرضاوي ومن جنح معه من العلماء والفقهاء والدعاة في ما يشبه التحريض على الفتنة بين المسلمين، لما كان تجرأ اليوم وهو في أرذل العمر على تحليل دماء المسلمين في ليبيا وهم يمزقون تحت قنابل حلف النيتو، أو يستبيح دم شيخ جليل بقامة الشيخ البوطي، أو كان داعية مثل الخطيب يجاهر أمام رؤساء العرب بالدوحة: أنه قد طلب من الأخ الأمريكي بسط مظلة صواريخ باتريوت على شمال سورية، وشجب تأخر تدخل حلف النيتو لتجديد ملحمته الليبية بأرياف الشام.
السؤال الذي أعيد استنساخه في سورية بصيغة من يقتل من؟ له نفس البعد التضليلي الذي كان له في فتنة الجزائر، لأنه يشتت الدم الحرام بين مجاهيل، ويصرف المسلمين عن واجب إدانة إراقة الدم المسلم البريء الذي هو الأصل إلى إدانة المجاهيل من القتلة وهو الفرع.
الاستبداد بفتاوى الجهاد ضد الاستبداد
قد لا يختلف عاقلان في إدانة الأنظمة المستبدة، التي تتحمل مسؤولية تهيئة دولها ومجتمعاتها للفتنة بممارساتها القمعية والإقصائية للمعارضين والمنافسين لها على السلطة. ولا شك أن نظام الحكم في الجائر في التسعينيات كان مستبدا فاسدا، قد هيأ البلد للفتنة بقرار توقيف المسار الانتخابي الذي اتخذ ذريعة للاقتتال، واحتج به علماء الفتنة للدعوة لجهاد المسلمين في المسلمين، ولن يدافع أحد عن غلو نظام الجماهيرية الليبية في الاستبداد بالحكم، وقمع المعارضين من جميع ألوان الطيف السياسي والعقائدي، ومثله يدان النظام البعثي في العراق وفي سورية، ومنظومة الفساد في عهد مبارك وبن علي وعلي عبد الله صالح، وقد كان ولا يزال القاسم المشترك بين أنظمة الحكم في مشارق أرض المسلمين ومغاربها إعلاء كلمة الباطل والفساد والاستبداد الأحمق الأخرق بالحكم، وأن من رأيناهم في نهاية هذا الأسبوع بالدوحة من القادة العرب، يطالبون بتسليح المعارضة السورية من أجل الإطاحة بالنظام السوري، قد حق عليهم بهذا المنطق ما حق في نظام القذافي، وبشار الأسد، ومبارك، وبن علي.
"لو أن الاستبداد والفساد كان يحتج بهما شرعا لدعوة المسلمين إلى الجهاد، لكان وجب على علماء المسلمين تأثيم المسلمين في القرون الأربعة عشر الماضية لأنهم خلدوا إلى الأرض، ولم يجاهدوا أنظمة الفساد منذ نهاية حقبة الخلافة الراشدة كما يقول التكفيريون من فقهاء الشيعة"
وبنفس المنطق كان قد حق على العلماء والفقهاء في اتحاد العلماء المسلمين دعوة جميع المسلمين للجهاد في بلاد المسلمين وإسقاط النظم الفاسدة، ولو أن الاستبداد والفساد كان يحتج به شرعا لدعوة المسلمين إلى الجهاد، لكان وجب أن يعود الليبيون لساحة الجهاد، وقتل المسلم للمسلم، في سبيل إسقاط النظام الفاسد الذي يشيده اليوم ثوار النيتو على دماء ودموع الأبرياء في معتقلات مصراتة، والإبادة الجماعية في بن وليد، وسيرت، وسبهة، ولوجب الجهاد ضد استبداد حكم الإخوان في تونس ومصر، وقتال ملالي حكم المالكي في العراق، بل كان واجبا على علماء المسلمين تأثيم المسلمين في القرون الأربعة عشر الماضية لأنهم خلدوا إلى الأرض، ولم يجاهدوا أنظمة الفساد منذ نهاية حقبة الخلافة الراشدة كما يقول التكفيريون من فقهاء الشيعة، ولا خلاف بين استبداد سلاطين الأمويين والعباسيين والعثمانيين قبل سقوط الخلافة، واستبداد الأنظمة التي ورثتهم بعد تقسيم المستعمر لجغرافية العالم الإسلامي.
جهاد الطلب..قاعدة الجهاد في المسلمين بالمسلمين
ترسيخ هذا الفكر الجهادي المنفلت العقال، الذي انتقل بالمسلمين من جهاد الدفع المشروع دفاعا عن الأوطان، وحماية المسلمين من الغزاة والمستعمرين، إلى جهاد طلب غير منضبط، فتن الشباب المسلم في ساحات أفغانستان والشيشان ولو بالتحالف مع الشيطان الأمريكي، إلى جهاد في المسلمين ببلاد المغرب الإسلامي، إلى جهاد ترعاه أنظمة الخليج بالمال الفاسد وبمن أفسدهم المال من العلماء والفقهاء، نراه يدفع بالشباب المسلم إلى الفتنة، وإلى الهرج والمرج الذي حذرنا منه سيد المرسلين.
وفي الجملة لم يعد الشباب المسلم يميز بين الحق والباطل، وبين الجهاد المشروع الذي يحرر الأوطان وكان عليه اجماع المسلمين، وأيده الشرفاء من بقية الملل كما حصل في حرب التحرير الجزائرية، وبين ما يراه اليوم من دعاوى للجهاد في المسلمين تحت مظلة حلف النيتو، وصورايخ باتريوت الأمريكية، وقد حللها لهم شيوخ الفتنة من علماء السنة والشيعة.
المشهد الوافد من الدوحة نهاية هذا الأسبوع كان مشهدا مأسويا يدعو إلى اليأس، وقد بدا جليا من تجدد واجهة النظام العربي بوفادة قادة جدد، جاء بهم الغزو الأمريكي بالقوة الصلبة مثل حكام العراق، وآخرون جاءت بهم الفوضى الخلاقة التي تنفذ تحت عنوان ربيع الشعوب، لتنصب حكاما مستوردين من لندن وواشنطن وباريس، كان آخرهم رئيس الحكومة المؤقتة للمعارضة السورية، الذي احتل مقعد سورية، وهو أمريكي الجنسية من أصول كردية، لم يكن يسمع به أحد، لتكتمل أمركة قيادة النظام العربي الجديد من الماء إلى الماء، يترضى عنهم مشايخ الدوحة والحرمين، ويدعى لهم بالنصرة والصلاح في خطب الجمعة والعيدين.
الموت الرحيم للغلابة من المسلمين
قرن وثلث القرن من الاحتلال الاستيطاني الفرنسي للجزائر لم يدفع بالمسلمين في هذا البلد إلى اليأس، لأن المستعمر الذي نجح في احتلال الأرض، لم ينجح في احتلال عقول المسلمين، ولأن سقوط الأرض لم يقترن بسقوط هوية المسلم في هذا البلد، ولأنه لم يفقده الثقة في نخبته من قادة المقاومة من العلماء والصالحين من الوطنيين، وقد رفضت نخبته أن تحمل على ظهور دبابات المحتل لحكم أبناء جلدتهم وملتهم بالوكالة، وقد رفض الأمير عبد ألقادر عرض نابليون الثالث بتوليته مملكة العرب، ورفض قادة جبهة التحرير عروض ديغول بسلام الشجعان، الذي كان مشفوعا بتوليتهم واجهة الحكم تحت عباءة وحماية دولة الاحتلال، لكن المالكي ورفاقه من الإسلام السياسي الشيعي والسني رضوا بأقل من ذلك، ومثلهم فعل حكام ليبيا الجدد، ومن يطمع في حكم سورية ما بعد الأسد، وقد ركنت نخبة الإخوان لحماية المظلة الأمريكية الغربية، حالهم كحال بقية حكام الخليج، وصرنا إلى نكبة شاملة يفترض أن تنسينا نكبة ضياع فلسطين، بعد أن أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من سقوط قلب العالم الإسلامي في فتنة مستديمة، يباركها كبار علماء المسلمين، وقد صار أكبر همنا فيها أن يسمح قادتنا ومشايخنا للغلابة من المسلمين بالموت بشرف لا أن يذبحوا، باسم نصرة الدين وإسقاط نظم الاستبداد، كما تذبح بهيمة الأنعام.