السجون .. الضباب .. السجون وحفنةٌ من الترابِ في العيون وبارقٌ من الوجوه يرجعُ الحلاجَ من جديد الى السجون كفهُ يملأها الحديد .... ياطريد غربتُك الممحاةُ تبعثُ الرؤى في الزمن الشريد
2
علَّمني الحلاجُ أنْ أكونَ بين كلِّ تائهٍ عصاه وأنْ أكونَ بين كلِّ شفةٍ ظمأى كؤوسا مشردٌ يضحكُ منك الليلُ والمتيه ويُشعلُ الزمانُ عارضيك وأنتَ تُوقدُ الحياة تعرفُك الفلاةُ والنجمُ في سمائهِ يهوي اليك
3 يا حلاجُ من تكون ؟ من أكون ... السجون .. السجون .. الزمان .. المكان .. الحضور .. الغياب الضباب من تكون ؟ يحضنك الزمانُ والمكانُ يشتريك ترفضُ قيدين وانت تبقى اللغزَ في انكفاءة القطبين .. كيف دنوت للفناء وكيف أبعدتَ الصدى عن عالمِ الذوات . علمني فناؤك ـ الوجود ـ كيف احتويك كما احتوى القديمَ روحُك الغريب واسمع النداء ... يانداء ... يا أنا .. نحن روحان حللنا بدنا .. بدنا .. بدنا أنا من أهوى ومن أهوي أنا أنا .. أنا
4
تعششُ السنينُ في ضلوعي العتيقه ينامُ كلُّ الجائعين في جفوني الحريقه اسمعُ أصواتاً تصيح أحملُها في داخلي تقولُ إنك الغياب .. وإننا في صدرك الحضور .. يا حلاجُ كيف أدركُ الفناء .. ؟ وكيف اعرفُ الوجود ؟
5 يحملني المستنفعُ الفكريُ للفراغ التهمُ الغربةَ والاحجار والأمل المضحك قيثار يشربني السكون .. من أكون ؟
جودت القزويني شاعر عراقي عاصر جيل الستينات، وقدم نتاجه الشعري في السبعينات، وصدر له ديوانان، أولهما : قصائد الزمن القديم، وقد قال عنه الناقد المصري الدكتور علي عشري زايد إن « الأبعاد الشعورية لرؤية الشاعر في هذه المجموعة كثيرة ومتنوعة، وإن كان يغلب في مجملها الحس الأسوان الحزين، وقد تنوعت اللغة بتنوع هذه الأبعاد، فهي تارة تفخم وتجزل حتى تحس القاريء بأنه أمام واحد من الأجيال الأولى في تاريخ الشعر العربي . وتارة ترق وتشف حتى تكاد تذوب عذوبة » . والثاني « أشعار مقاتلة » ويعمد فيه الشاعر الى توظيف الشخصية التراثية، بحيث تعبر عن الملامح الفكرية التي يسعى الى التعبير عنها . وقصيدته « فناء في سجون الغربة » واحدة من قصائد ديوانه « للضوء ألوان أخرى »، وتتجلى فيه رؤية الشاعر الأخذة بالنمو والتطور والتبلور . وتثير قصيدة «فناء في في سجون الغربة » قضايا نقدية عديدة، تتجلى من خلالها قدرة الشاعر الفنية في تعامله مع اللغة وكيفية تشكيلها في نص شعري، وفي كيفية تعامله مع التضمين الشعري وكيفية توظيف القناع . وحين نتوقف امام التضمين ينبغي أن نميز بين دلالتيه القديمة والجديدة، لأن التضمين في القصيدة التقليدية يبقى مقتصراً على اقتباس نصي من قصيدة آخرى، شريطة أن يتدخل الاقتباس النصي في نسيج القصيدة التقليدية، سواء أكان التضمين بعض بيت، أم بيتاً، أم أبيات، وتبقى خصائص الاقتباس كما هي عليه في الغالب، كما أن القصيدة المضمنة ينبغي أن تكون من ذات الوزن والقافية التي عليها النص المقتبس غالباً وهذا يعني أن التضمين في هذه الحالة انما يمثل توكيداً لفكرة أراد الشاعر التعبير عنها، أو تعارضاً لها، بحيث لا يتجاوز التضمين عملية خلق جديد للنص المقتبس شيئاً، أو تعيد خلقه من جديد، كما أنه هو الآخر لا يضفي على القصيدة التي تضمنته كبير دلالة . ويمثل التضمين في القصيدة الحديثة ملمحاً جديداً يتكيء عليه الشاعر فيستغله دلالياً وجمالياً، ويسعفه في التعبير عن تجاربه المعقدة، ويتجاوز المفهوم الضعيف للتضمين القديم لأن التضمين في مفهومه التقليدي يتجاور ـ على أحسن الأحوال ـ مع تجربة الشاعر، فتصير جزء من طبيعة التشكيل اللغوي للقصيدة، بمعنى أن الشاعر الحديث حين يعمد الى التضمين فإنه يتجاوز الاقتباس النصي الى تفاعل يوظف فيه التجربة القديمة ويعيد خلقها من جديد في اطار تجربته هو، فقد تكون القصيدة الحديثة تشكيلاً جمالياً ينطوي على تجربة قديمة لشاعر ما، وقد تكون استلهاماً لما توحيه بعض ملامح تجربة الشاعر، مع اعطاء حرية مطلقة للشاعر في الخلق والتكوين ليتواءم التضمين مع التجربة، بحيث يتحول الى خصيصة جوهرية في بناء القصيدة وقد تنطوي القصيدة الحديثة على اقتباس نصي يخضع في تشكيله لتجربة الشاعر الحديث تلويناً وأداء دلالياً وجمالياً. إن التضمين في القصيدة الحديثة يتجاوز الأبعاد المحدودة الى أداة رمزية ثرية يوظفها الشاعر للتعبير عن رؤية، سواء أكان التضمين جزئياً في سياق القصيدة بحيث يثري دلالتها وتشكيلها الجمالي، أم شمولياً بحيث يحتوي التجربة الشعرية في القصيدة كلها . والتضمين من هذه الناحية تحكمه عناصر جديدة بسبب تراكيبه وتعقيده، ومن هذه العناصر ما يتصل بطبيعة التجربة الشعرية، وكيفية التعبير عنها بهذه الأداة البالغة التعقيد ومنها ما يتصل بالتشكيل الجديد الذي أراده الشاعر من هذا التضمين . إن التضمين كأداة بمقدار ماله من جوانب ايجابية ثرية يمكنها أن ترفد التجربة الشعرية، وتثري النص الشعري معرفياً ودلالياً، فإنها يمكن أن تعيق هذه التجربة وتحد من ثرائها وغناها، لأن التضمين المقحم على التجربة الشعرية يقطع تدفق القصيدة، وينبيء عن انفصام حاد بين الشاعر والتضمين . أن التضمين يتحول الى قيمة ثرية معرفياً وفنياً حين يلتحم بالتجربة الشعرية ويتوحد بها . وفي قصيدة « فناء في سجون الغربة » يمثل التضمين ملمحاً جمالياً استطاع الشاعر جودت القزويني أن يحوله الى تجربة جديدة، وقد تمكن الشاعر من التوحد مع التجربة الشعرية المضمنة وتوظيف أبرز دلالاتها الشعرية، حيث ضمن بيتاً شعرياً لصاحب التجربة القديمة، ولكن تضمنه يتجاور التضمين التقليدي، لأنه حوله الى جزء من تجربته الخاصة، وبهذا تكون التجربة الجديدة ذات ملامح متعددة وقد انطوت على تضمين تجربة شعرية قديمة ذات موقف محدد، وحولها الشاعر الحديث الى تجربته الخاصة على الرغم من أنه يجرد نفسه مرة ويخاطبها مرة، أو يستخدم «لقناع » التاريخي للتعبير عن التجربة الحديثة في ضوء اسقاطاته المعاصرة على الماضي . إن الشاعر في هذه القصيدة يستوحي من التراث تجربة فريدة لثائر وشاعر، وهو لا يحافظ على خصائص هذا الثائر الشاعر، وإنما يجرد شخصيته من بعض ملامحها المعروفة ليضفي عليها ملامح جديدة، فهو من هذه الناحية يحكم تجربة الثائر القديم ويحكم شاعريته أيضاً في سياق تجربته المعاصرة الخاصة .. ومن ثم يحاول إعادة الماضي في ضوء الحاضر، أو إعادة الثائر والشاعر القديم الذي تمرد على القيم والتقاليد ويحاول إعادة في تجربته الخاصة ثائراً على قيم وتقاليد أخرى . إن الحالة التي يعيشها جودت القزويني من عتمة قاتمة وغربة قاتلة في رحلته الخاصة المتأزمة أعادت اليه في الوعي تجربة شاعر آخر ـ في الماضي ـ عاش الغربة بسجونها ومعاناتها، وبهذا تسترجع التجربة الحديثة صورة الماضي وتعيد تشكيل شخوصها ورموزها من جديد، غير أن هذه الإعادة ليست على غرار إعادة الحدث القديم ووصفه، لأن السياقيين التاريخي والاجتماعي مختلفان، ولكن بعداً مشتركاً يدفع الى هذه المماثلة في التجربة بين الماضي والحاضر، تمكن الشاعر من وعيها فاتكأ عليها على شكل «قناع» من أجل التعبير عن تجربته الشعرية الخاصة . ولقد كان توظيف شخصية الحلاج في الشعر الحديث ينمو ـ غالباً ـ في اتجاهين : أحدهما أن يخلع الشاعر على الحلاج بعض ملامح المسيح، والثاني : توظيف شخصية الحلاج لتقديم ملامح سياسية معينة أراد الشاعر اسقاطها . وكان جودت القزويني يعي أن الحلاج ثائر ومتمرد ضد ضبابية الوعي والسعي نحو نور اليقين، ويعي أيضاً تمرده ضد السجون : سجون الغربة، وسجون الضياع، ولذلك اتخذ من الحلاج قناعاً يتحدث فيه عن تجربته الخاصة ومعاناته في واقع مليء بالمآسي، وقد اسعفه الحلاج في تأدية وظيفته هذه لثراء في شخصيته ومواقفه وشاعريته. إن هناك تماثلاً بين الشاعر والحلاج، كلاهما متمرد، وكلاهما شاعر، هذا يفنى في سجون غربة الحاضر، وذاك قد عانى من سجون الغربة فأفنى ذاته في انعتاق من الجسد، فالحلاج لدى جودت القزويني ـ لو استعرنا لغة إليوت ومصطلحاته ـ « المعادل الموضوعي » . اذن فهو يعيد تجربة الحلاج بوصفه « قناعاً » يعبر عن تجربة حديثة . إن تجربة الشاعر تتكيء على مفردات الضياع، سواء أكانت ضياعاً في سجن، أم ضياعاً في ضبابية الوعي، ولكنها على كل حال ترجع الحلاج القديم في صورة الشاعر الحديث لتزج به من جديد بالسجن، وكأن الثائر المتمرد نمط متكرر يعيد التاريخ إحداثه، ولابد أن تكبل يداه بالحديد، وكأن هذه سنة تاريخية يتحتم حدوثها في كل مكان وزمان: السجون .. الضباب .. السجون وحفنة من التراب في العيون وبارق من الوجوه يرجع « الحلاج » من جديد كفة يملأها الحديد واذا كان الشاعر قد عمد ـ هنا ـ الى تجربة ذاته عن تجربته، على الرغم من أن الحلاج إنما هو قناع الشاعر، بل هو الشاعر نفسه، فتحدث عنه بضمير الغائب، ولكنه من أجل أن يجعل للحلاج، أو لقضيته حضوراً أقوى، انتقل الى مناداته ومخاطبته : ياطريد غربتك الممحاة تبعث الرؤى في الزمن الشريد وينجح الشاعر في توحده مع « قناعه » والتوحد ينبيء عن تماثل في توحد التجربة، ومحاولة خلق تجربة جديدة، كما أن الشاعر يتجرد في قناعه، يحاوره، ثم يرجع ليتوحد به من جديد . ففي المقطع الأول من القصيدة يتوحد الشاعر مع الحلاح بحيث لا ندري أيهما الشاعر وأيهما الحلاج، فالحلاج يعود من جديد في إهاب الشاعر، فيزج به، أو بهما معاً في السجن : « طريد كفه يملأها الحديد » وتضفي غربته على الواقع معنى، وتبعث الوعي في زمن غريب، والشاعر في المقطع الثاني يتحول إلى راوٍ يتحدث عن تجربته الخصبة، وتلمذته لهذا الثائر المتمرد، ثم يعمد الى مخاطبة هذا الثائر بذكر خصاله وصفاته . إن الشاعر القزويني يتحدث عن الوعي الذي علمه إياه الحلاج، وهو ـ في الحقيقة ـ يتحدث عن نفسه، فليس الحلاج سوى قناع يوظفه الشاعر ليكسر به حدة الغنائية، وليضفي سمات موضوعية على تجربته الشعرية، وقد أكد هذا الملمح عبد الوهاب البياتي في أثناء حديثه عن القناع حيث يقول « إن الشاعر يعمد الى خلق وجود مستقل عن ذاته، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية » . ولذلك فإن الشاعر جودت القزويني في ضوء ادراكنا لقناعة هو الدليل والمرشد الذي يقود العميان . في زمن يقل فيه أصحاب الوعي، وأن يبل ظمأ العطشان، فيتحول مرة إلى عصا تقود التائهين، ويتحول مرة الى كأس يرتوي منه الظامئون، أي أنه يتحول الى أداة ولكنها في كلتا الحالتين ليست سوى أداة معرفية لأن عصا الأعمى هي التي تبصره في واقع معتم، هذا إذا أدركنا أن الشاعر لا يتحدث عن العميان وإنما يتحدث عن التائهين، إذن فوظيفة الشاعر في الوعي أساسية وجوهرية، وبالامكان تفسير قضية الكأس بوصفها كأس المعرفة التي تدل وترشد . أما الخصائص التي يخلعها الشاعر على الحلاج فهي ليست سوى خصائصه هو، وبذا يمتزج الموضوعي بالذاتي، وليست بدعة هذا الامتزاج، فإن اغلب شعراء الحركة الشعرية الحديثة « يمزجون فيما يستخدمون من رموز ونماذج اسطورية الذات بالموضوع» فالشاعر هو المشرد الذي يضحك منه زمان الغربة وعلى الرغم من أنه يوقد الحياة بالمعرفة والوعي فإن عارضيه يشعلهما الزمان، ربما يشتعلان شيباً، عمقاً زمنياً في الحياة وإدراك كنهها : علمني الحلاج أن أكون بين كل تائه عصاه وأن اكون بين كل شفة ظمأى كؤوساً مشردٌ يضحك منك الليل والمتيه ويشعل الزمان عارضيك وانت توقد الحياة تعرفك الفلاة واالنجم في سمائه يهوي اليك وتستهوي الشاعر حالة التوحد والانفصام بقناعه، فهو يوهم المتلقي أنه يتحدث عن (( القناع )) أي عن الأخر، ولكنه يوظف الأخر تعبيراً عن الأنا، وتتجلى صور التوحد والانفصام في تضمين الشاعر لبيت الحلاج لتعبر عن حالة التوحد المطلقة بـ «الحلاج ـ القناع » فيتكيء على الموروث الصوفي في بعض مفرداته وغموض تجربته، فتشف تجربة الشاعر، وتتعالى في غموض المفردات والتراكيب، ويسبق هذا سؤال عن ماهية الأنا، مرتين، ـ أي سؤال عن وعي الذات ـ ماهية : « الأنا ـ الشاعر » وماهية « الأنا ـ القناع » في اطار الحديث عن الأنا والآخر، فبعد أن عرفنا أن الحلاج الاستاذ قد علّم تلميذه الوعي والمعرفة وأن التلميذ قد وعى الدرس وطبقه، يثور التلميذ على القناع ويرجع فيتحد به، يسأله عن ماهيته بوصفه « أنا » ويسأله عن ماهيته بوصفه « الآخر »، وتتدفق المفردات تحت تأثير تجربة شعرية صوفية، ويتحول السجن الى واحدة من هذه المفردات التي تتجلى فيها الثنائيات الضدية : الزمان والمكان قيدان يحيقان بالانسان ووعيه وتجربته، ثم التطرق لأخر التجارب الصوفية « الفناء »: ياحلاج من تكون ؟ من اكون .. ...... من تكون يحضنك الزمان والمكان يشتريك ترفض قيدين وانت تبقى اللغز في انكفاءة القطبين كيف دنوت للفناء وكيف أبعدت الصدى عن عالم الذوات إن الحلاج كان يتسامى بتجربة صوفية، ويركز الشاعر جودت القزويني على أحد مكوناتها، وهي محاولته توحيد الأنا بالآخر، أو إبعاد الصدى عن عالم الذات، والفناء ـ دون شك ـ حالة توحد بالآخر، بمعنى الغاء للأنا لتصبح هي الآخر، هذا الفناء يمثل وجوداً حقيقياً، وليس ظلاً ـ لأنه توحد بالمطلق، فالحلاج قد توحد بالمطلق، وقد انبهر الشاعر بهذا الفناء لأنه يمثل لديه الوجود الحقيقي، ولكنه لا يريد تجربة صوفية تماثل تجربة الحلاج في توحده بالمطلق، بل يريد جودت القزويني أن يتوحد بقناعه أي أن يتوحد بحلاجه الكائن في ذاته، أن محاولة التوحد ـ هذه ـ إحتواء لآخر ووعي له في آن . إن الشاعر تحت وطأة العيش في الواقع يفيض بالمعاناة، يريد أن يحتوي عالمه الداخلي، وأن يتوحد مع ذاته، فحالة الانفعال بالتجربة شطرت الشاعر الى بعدين « أنا ـ وآخر » و « تلميذ ـ واستاذ » و « جودت ـ وحلاج » ويتبدى هذا التوحد في التضمين الشعري الذي يصوغه الشاعر في إطار تجربته الجديدة في نداء يأتيه من الآخر ليصوغه في أنا متضخمة تتحسس الوعي بالأنا أولاً، وبالبدن ثانياً . واسمع النداء .. يانداء .. يا أنا نحن روحان حللنا بدنا .. بدنا .. بدنا أنا من أهوى ومن أهوى أنا أنا ... أنا ويتجلى من خلال تتبع القصيدة أن الذي يقض مضاجع الشاعر، ويلح عليه في هذه التجربة الشعرية انما هو وعي ذاته وادراك الفناء، ووعي الوجود . ياحلاج من تكون من أكون أو : ياحلاج كيف أدرك الفناء وكيف اعرف الوجود وعلى الرغم من أن هذه الابعاد فلسفية الطابع والغاية، ولكنها تمثل جزءً أساسياً من تجربة الشاعر، فهو لا يفتعل هذا لمجرد رغبة عابرة في التفلسف، وإلا لسقطت التجربة والقصيدة، ولكنها ـ جميعاً ـ تتحول بسبب معايشته لها الى تجربة شعرية تتوقد في أعماقه ويضعها أمام المتلقي كواحدة من معاناة معاصرة . ولا يعني هذا أن الشاعر يستخدم الفاظه استخداماً منطقياً، وإنما يختار الفاظه لتتخذ موقعها المناسب في بناء القصيدة ، أو على حد تعبير أدونيس « علي أحمد سعيد » « إن لغة الشعر هي اللغة ـ الاشارة، في حين أن اللغة العادية هي : اللغة ـ الايضاح » ، ولقد تركت التجربة الصوفية للحلاج آثارها في رؤية الشاعر، وما دامت التجربة الصوفية تتجاوز «التجريد أو التعالي بالمعنى التقليدي الديني، وتغير تبعاً لذلك مفهوم العالم » ، ولهذا فإن رؤية الشاعر القزويني تجعله يبصر الأشياء بكيفية أخرى، فهو يحول العالم الى خصيصة ذاتية يسقط عليها أفكاره وتصوراته ويتكيء على انماط استعارية تسهم في تشكيل صوره الشعرية في إطار تجربته الشعرية كلها التي تمثل استعارة كبرى، فالسنين وهي بعد زماني تتحرك في مكان يعيش فيه الشاعر فهي تعشش في ضلوعه، كما أن الجائعين ينامون في عيونه، وأن أصواتاً تصرخ في أعماقه : تعشش السنين في ضلوعي العتيقة ينام كل الجائعين في جفوني الحريقة أسمع أصواتاً تصيح أحملها في داخلي إذن فالشاعر يعي صيرورة الزمن وحركته، ويتمثلها في تجربته وفي عالمه الداخلي المضطرب، ويبصر أحزان الجائعين التي تعلق في باصرته لا تفارقها، وهذان البعدان يعنيان أن الزمن يؤكد جانباً وجدانياً ازاء القلب، ليعني أن حركة الزمن تحتوي جانباً ذاتياً، كما أن نيام الجياع في جفون الشاعر تؤكد خاصية الباصرة في تمثل صورة مكانية تتشكل بطريقة ما، ومن أجل أن يستكمل هذه الصورة يرفدها ببعد يصرخ فيه، ويحول هذا كله الى قضية وسؤال . أما القضية فإنها تقترن بثنائية ضدية يتبادل فيها « الأنا » و « الآخر » الموقع والأدوات، وتتكيء على تجربة صوفية : الفناء، والغياب، والحضور، ونحوها . فالحلاج الذي كان في اثناء تجربة الشاعر كلها يعيش حضوراً حقيقياً في القصيدة يتحول الى « غياب »، ولكن هذا مجرد ايهام للمتلقي، لأن الشاعر يعيد الحلاج، وإنّ شئت قلت يعيد خلق الحلاج من جديد من خلال « أنا » فإذا كان الغياب هو الماضي أو القديم فإن الأنا أو النحن إنما يمثلان الحضور تحت القناع التاريخي المتمثل في الحلاج، أو على وجه التحديد في المنطقة التي تنطوي على أرقى درجات الصفاء والنقاء في « صدر » الحلاج حيث عالمه الداخلي : اسمع أصواتا ًتصيح تقول إنك الغياب وإننا في صدرك الحضور وإذا كانت القضية التي يطرحها الشاعر تتأسس على ثنائية ضدية يتبادل فيها الادوات الأنا والآخر، والحضور والغياب، والوعي واللاوعي، فإن السؤال أكثر وضوحاً وقرباً، فإنه يخاطب الحلاج، بل يخاطب عالمه الداخلي ـ عالم الشاعر ـ ويسأله عن ازمته الروحية ومعضلته الخطيرة التي تحتوي القصيدة كلها : ياحلاج كيف أدرك الفناء وكيف أعرف الوجود وإذا كان الشاعر قد بدأ قصيدته بالسجون والضباب، أي في هذه الحالة القائمة من العتمة في الرؤية سواء في رؤية الأشياء أو رؤية الأنا والآخر، فإنه ينهي قصيدته بذات العتمة ولكنها هذه المرة عتمة « الأنا » من أكون، ولكن الفرق كامن في أن العتمة كائنة في اول القصيدة في العالم الخارجي، ولكنها في آخرها كائنة في العالم الداخلي في الأنا، ولذا فنحن إزاء حركة يتردد فيها الشاعر بين الذات والواقع، وتتكرر التجربة، وكأن الشاعر يريد القول إن القصيدة لا تنتهي، وإنما تعود من جديد رؤية وايقاعاً: السجون .. الضباب .. السجون وحفنة من التراب في العيون . |