من سماء بعاذرا الى مياه الأهوار

بعاذرا قرية يسكنها خليط من الكرد الأيزيدين والمسلمين ،لكن الأغلب هم من الأيزيدين  وهي من قرى قضاء الشيخان في لواء الموصل التي ألحقت أدارياً مع لواء دهوك بعد عام 1991.

هذا موجز المكان الذي احتفظ فيه بخيالي لثلاثة صور هي من بعض سحر  وجمال الذكريات التي تركناها خلفنا .

الأولى لصديقي الأيزيدي في وحدتي العسكرية أيام حرب الشمال والمسمى ( جبل نافخوش حسو ) من أهالي مدينة سنجار ، طيب القلب  وله بنية جسدية هائلة في التحمل إخضاع البغال الى الهدوء حين ( تحرن ) ، لم يلمسَ حرف هجاء بأصابعه طوال عمره ، لأنه عاش كل حياته يزرع البطيخ في قريته الواقعة في  سفوح جبل سنجار ولم يذهب الى المدينة إلا عندما تمت دعوة مواليده الى خدمة العلم.

الصورة الثانية : صورة تحسين فايق ججو ، النادل في نادي الموظفين بقضاء الجبايش جلبهُ المتعهد المسيحي السيد جورج بنيامين ، وكان تحسين صورة لبراءة وجمال الوجه والحركة ، وكنا نسميه ، ( تحسين تعالْ يا ورده ) وهي عبارة دلال طفيف اكثر ما يستخدمها الناس للمجاملة  . وكان يتقبلها بابتسامة وبراءة فهو مثل جبل نافخوش حسو لم يتلمس حرف هجاء بين اصابعه.

الصورة الثالثة هي للرجل الايزيدي والمتعلم ( حاجي صبري ) الذي استضافنا في بيته بكرم غريب يوم حطَ رحالنا في قرية بعاذرا لعمل اردنا فيه انا وصديقي الحاج عباس ايصال هاتف الثريا الذي ارسله لهم ولده ( مردان ) المغترب في السويد.

وحاج صبري الذي سبق له أن زار الناصرية ويعرف أصدقاء له اشتغلوا متعهدين في نواد اجتماعية وتحدثوا له كثيرا عن البساتين والنهر وضفاف الاهوار ، وما يحتفظ به :أن طيبة أهل الأهوار معروف عنها هنا بين قرى الكرد وهو سعيد بأن يستضيفنا في بيته ويشكرنا لعناء طول مئات الأميال حتى نوصل له الأمانة التي أرسلها له ولده .

 كانت ليلة رائعة تحت سقف النجوم في سطح بيت حاج صبري في قرية بعاذرا .

أجمل ما في الحديث هو اكتشافي أن الشاب ( تحسين ) الذين كان يداري امزجتنا في ليل نشوة الحنين الى الكأس وماعون الباقلاء وصوت أنت عمري المنبعث من الراديو الفيليبس الكبير في قاعة النادي هو من أبناء بعاذرا .

قلت بفرح : وأين أجده الآن ؟

قال حجي صبري : من زمان التحق مع البيشمركه ، وحين كبرَ حمل جسده وعبر الحدود الى تركيا مع عائلته ومن هناك لجأ الى المانيا.

ضحكت وقلت : يا لهذه الطيور ، كم تطوي من المسافات والذكريات . من سماء بعاذرا ، الى مياه الأهوار ، الى ثلج أوربا.؟

واليوم اعيش ايضا محطات غربتي في ذات الامكنة التي لجأ اليها تحسين ، وتسكنني رغبة عجيبة لأراه واستعيد معه ازمنة براءة عبارة ( تحسين تَعالْ يا وِرده ). لكنني لم اعثر عليه الى اليوم ، وكل يزيدي اصادفه في محطة قطار أو مجلس ثقافي ، أسأله وبلهفة : هل تعرف ايزيدياً أسمه ( تحسين فايق ججو).؟