السومريين وقداسة اللغة العربية في الميزان.
الحلقة الثانية
العرب لا تبال في أمر كلام القرآن، إن كان من السماء أم من الأرض، فليس هذا تفكيرها، فالأمر عادة دارجة بهطول الأنبياء في كل حين. ( وله الحظوة من غمزت سنارته ولو بعد حين، إذ يتوقف هذا على مايقدمه النبي من منتوج فكري وحلول). ولكن صنعوا (فوبي) البلاغة الصادرة من نفس القائل وهو الله وفلسفة تعبيره هو، فأصبح معنى التعبير هو العبور من الظاهر الى الباطن، الذي سيُستنبط من خلال أهل العلم من بلغاء اللغة في القرون القادمة. والبلاغة إكتمل علمها كما هو معلوم بحليتها اليوم، على يدي السكاكي سنة 623 هجرية. ولا أعرف لهم في زمن النزول معيارأ لغوياُ قاسوا عليه بلاغة كلام الله وإعجازاته اللغوية؟
والعبور لايقصد منه صور المجاز المعلوم أو من صنوف التعبير الصوري المعنوي في أشكال التشبيه والكناية المعروفة ، فهذه سهلة تمكن منها كل العرب والشعراء بالخصوص، ولكن العبور من ظاهر اللغة الى باطنها كونها صادرة من نفس القائل وهو الله ، وبما أن الله ليس كالبشر فقوله بالضرورة ليس كقول الشعراء من خلقة، بالرغم من وضوحه وبيانه عربياً لسانياً .
فمن خلال هذه البوابة التي اناطوها بأهل العلم ، حكموا بها مصائر الأغلبية، كما هو حال تحكمهم بمصائر عامة الناس اليوم الذي يؤدي بالضرورة الى التسليم لهم، ليس فقهيا أولاُ، وإنما لغوياً، لآن الفقه هو في لغة القرآن العربية، فالفقه له الفصل في الحكم ، فهو حاكم اللغة نحوياً وليس العكس !. فالسبب رعب بلاغة اللغة العربية من نفس القائل ( الله ) التي عجز العامة عن فهم لغتة، بالرغم من أنها لغة أعراب ذلك الزمان التي نزل بها القرآن ليحدثهم الرسول بها وليؤمنوا من خلالها بالله القائل ولايعقل أن يعقدها الله أو يتكابر عليهم بفلسفتها ، وهو الذي وصفهم بالأميين والبهائم ويعلم أن علم البلاغة لاوجود له، لم يولد بعد في عقولهم ، كيف يعقدها ليبلغهم ويامرهم بشرائعه وأحكامه، ليعقلون فيهتدون؟ أم أن الأمر عرض عضلات لغوية؟ ليفهموا بلاغته المغاير لبلاغة شعرائهم العرب ! فهمه ذاته اللغوية المتعالية على بلاغة شعراء لغة العرب الراقية بلاغتها، التي لن يفهمها إلآ المتفقهين بعلم اللغة، التي ستكتمل بلاغتها في القرن السابع الهجري.
ليس الدين أي دين أو إلإيمان بحد ذاته هو السبب، إنما سياسة قداسة اللغة وإحتكار تفسيرها باتت سيفاً ومقوداً فكرياً نووياً مرعباً بل مجهولاً ترتعب منه الأغلبية، لذا سكن في أيدي رُبَّانه المتفيقهون، وستستمر دعم سياسة تقديس اللغة وأهمية مراجع التفسيرللمعنى المقصود في نفس القائل ولغته وهو الله .
فساحة العراق الضعيف ، كانت ساحةً للقوافل الأستعمارية في زمن يشبه أزمنة وساحة تلكم الأقوام الضعيفة في الجاهلية والأسلام ، حيث يتعرضون للغارات والغزو كل يوم. فالغزو للأقوام وللقوافل التجارية أرضياً مصدر من مصادر كسب الرزق المتعارف عليه، حتى للنبي محمد ذاته قام به، ولكن إقتصرت غزواته التي تجاوزت الثمانون، كما يقال على قوافل المشركين المعتدين الذين سلبوهم وهجروهم من ديارهم، والعلم عند الله . ولكن الفتوحات هي صورة من صور الغزو التي لايمكن أن تنكر. ولكل زمان صوراً في طرائق الغزو وآلياته ولازالت الشعوب تغزو بعضها البعض.
يعد الغزو أيضاً مظهراً من مظاهر القوة للحمل على تركيع الأقوام وأخذ الآتاوات منهم لحمايتهم كما هو اليوم ، أما الغزو السماوي فهو بوابة العلم. ولهذا إشتهرت عادة أو مودة ظهور الأنبياء، فألأول مصدر للغذاء الجسدي والثاني للروحي والمعرفي، كمعين فكري عقدي ونفسي إجتماعي لسياقة توجهات الأقوام، ورفع مكانتها.
ولهذا تسابقت الأقوام في الجسدي بالغزو الأرضي، والمعرفي السماوي بتجهيز وتطوير صحون الأنبياء الطائرة من السماء لغزو أقوام الفضاء في الأرض ومن ثم لإرغامها على التسليم والعبادة والإيمان بربها فقط ، الذي يغفر للمرء كل الذنوب إلآ الشرك به. أعوذ بالله من الشرك.
فإذا ماظهر نبي سارعت الأقوام الأخرى بالأتيان بمثله والتاريخ مليء بالشواهد التي لايسعها مقال مختصر كهذا وكله من فعل الإنسان بالطبع. والنبي يمثل القوة العلمية المعرفية المواكبة للقوى الفنية والبيلوجية للأنسان ، فكلاهما أدوات ذلك الزمان لتحقيق الهيمنة والتحكم بمصائر الناس وقيادتهم لتحقيق الغلبة والإنتصار. كما هومقام وشأن العلم والتكنلوجية والموارد الأرضية والعقلية الفذة لهذا الزمان.
المشكلة أن الأقوام المسلمة ومنها العراقية السومرية، لازالت تعيش بذات العقلية في الأنتظار بظهور مُخلِّص، بشاكلة حياة وعقلية شعوب الماضي من ذلك الزمان بالرغم من إيمانها بنهاية حلقات الخلاص، تطلب الخلاص، ولكن مواصفات المخلص المطلوب اليوم للأسف لايتلائم ولايستجيب لزمن العلم والتكنلوجيا وفنون القتال لهذا الزمان، ليخلصها بالقوة ويرفع مقامها ويشد من أزرها كما رفع مقامها، وخلصها من جور القوافل وضباعها، النبي محمد، الذي أنشأ لهم قوة ورهبة وإعتبار من حاضر مستوياتهم المعرفية وفنونهم القتالية، فأوقف حياة الغاب فيهم، ووحد الأقوام بلغة يفهموها وتتلائم مع صور حياتهم اليومية والنفسية، وقدراتهم العقلية، كما ساعدت لغته على فهم سلبية عبادة الأصنام وأثارها النفسية والإجتماعية، فدعاهم الى نبذها بأشكالها الحجرية والقومية والنسبية، التي أطفأت شمعة الوحدة الإجتماعية ونور قيمتهم الإنسانية ومكانتهم الحضارية ، فغير وجهتهم العبادية سلوكياُ وإيمانياًُ الى ذات مجردة من الذات البشرية، الى ذات أسمى أسماها محمد ـ الله ـ فبنكران الذات لأنفسهم والتوجه لذات مجهولة ولكن متعقلة، حققوا الكثير، في زمن قياسي.
إذ لم يتفلسف النبي باللغة العربية وبلاغتها، ولو فعل لولوا له أدبارهم، ولما كان في وسعه أن يسجل تاريخاُ يذكر لرسالته .
فكتاب النبي وفكره سواء نؤمن أو لانؤمن أنه من الله ، ففيه فلسفة، روحية تعين وتعصم النفس البشرية على نبذ أصنامها والتوجه الى خارج الذات لإحلال السلم النفسي والأهلي وهذه الفلسفة موجودة عند أغلب الدول التي تعيش حياة التفاهم والسلم الأهلي بإعتبار أن هذه الفلسفة منتوج عقلي إنساني خالص.
ما فعله الرسول محمد نبي ذلك العصر ليغير حالهم وحال الثقافة الإجتماعية والإيمانية والقداسة السائدة، هو بالتوعية والتعامل مع القداسة الصنمية الفارغة المحتوى والمضمون، ومع الغامض الذي ينتظرهم وهو الموت، وبالذي في السماء، فأجابهم بمنطق الآيات السماوية من نفس الخالق الذي في السماء، وليس منه هو، فأشبعت الرغابات النفسية وأطفأت التحديات البشرية لخروج القول الى نفس مجهولة بأٍسم الله ،ولهذا تشجعت الأقوام بنسب وبالتدريج للإنضواء تحت مسمى سماوي يميط اللثام عن ذلك الغامض ويفسره لهم، ويضمن لهم الحياة الأخرى التي عجزت عنها الأصنام، ومنه ليختفي القلق الدائم من الجهل والمجهول القادم. وبهذا خلق محمد ماعجز غيره عنه من قرار نفسي روحي وعقلي ووحدة نفسية إجتماعية مطمئنة، مقننة سماوياً، وساحة توفر العيش والأمان في صحراء الضباع المفترسة وهذا هو الخلاص من المجهول واللا أمان، وهو دور الطبيب اوالمخلص الذكي الواعي لمتطلبات عصره وحاجات شعبه ليشفيه من أمراضه واسباب معاناته الجسدية والروحية، فكان محمد فعلاً الداوء الذي كان مطلوباً تشخيصه ، بشكله وبعينه ومحتوياته الحقيقية، عند أقوام ذلك الزمان والمكان. كما هو اليوم مطلوب خلاص معرفي لتشخيص صحيح وداوء صحيح وأول دواء خلاصي أو علاجي، هو التوعية بداء قديسة اللغة العربية وآثارها النفسية والفكرية على البوصلة الإجتماعية الواعدة بالداعشية الفقهية وومريدها، ومنه على حياة شعوبنا السومرية وغير السومرية.