طنطل بن شداد كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون |
كثيرة هي "الإبتلائات" التي ابتليت بها أمم سالفة ومعاصرة، وقد وثقت توثيقا انتقائيا دقيقا في القرآن الكريم بصيغة الماضي والمستقبل، كما ووثق بعضها في التاريخ العتيد والحديث توثيقا اكاديميا مفصلا، ومن هذه الأمم"أمة العرب"، فان أكثر ما ابتليت به هذه الأمة أن تولى أمرها جهال ساستها وأكابر منافقيها، وأكثر من ولوها أن قاموا على رقاب الناس بحد السيف وبالوصاية المفعمة باستعمال القوة المفرطة بالحديد والنار، الساسة الذين لايتصرفون الا بوفق مصالحهم ومنافعهم الشخصية وملذاتهم الدنيوية مستغلين بذلك حدود التحرك بالمساحة المتاحة لهم في ممارسة الحكم بشكل مطلق بفضل فتاوى وعاظ السلاطين التي تنص على اطاعة الحاكم وإن كان ظالما جائرا أو فاسقا، وبفضل تأثير سياسة قوى الاستكبار العالمي المفروضة عليهم كأمر واقع لدرجة اعتباره من الخطوط الحمراء التي لايمكن تجاوزها اطلاقا، وفي حال تخطي هذا الأمر عليه أن يقبل صاغرا بالتخلي عن كرسي الحكم، وإلا فالتصفية الجسدية والسياسية هي المصير المحتوم الذي سينتظره. ووفق هذا المنظور فإن حالة الإستبداد أصبحت هي السمة السائدة في المجتمع العربي من الناحيتين السياسية والفكرية فتحولت لظاهرة مستديمة إلى ماشاء الله من الزمن، أو بالأحرى اذا صح القول أن تلكم الظاهرة هي أصلا كانت ممتدة ومتواترة وموروثة عبر مئات السنين على أرض الواقع، وإن أول من أسس لها هو معاوية بن ابي سفيان على اعقاب الخلافة الراشدة الرابعة بعد خروجه على امام زمانه وولي أمره وأمر المسلمين الخليفة الرابع الامام علي بن ابي طالب (ع) ومحاربته، ومن ثم اغتصاب السلطة من بعده عبر إلغاء اتفاق الصلح المبروم مع الامام الحسن (ع). وإن من أهم النواتج العرضية لهذا الاستبداد سيادة وتفشي ظواهر "الخنوع، والخضوع، والظلم، ومصادرة العقول، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات والايمان بنظريات المؤامرة، والوصول بالناس إلى اعلى مراتب درجات الاستحمار، فضلا عن تبديد الثروات ووضعها في غير محلها"، وتبقى السمة الابرز من بين جميع هذه النواتج هي: "افتعال الحروب العبثية، ومزاجية ادارة العلاقات والاتفاقيات الدولية بجميع انواعها الثنائية والثلاثية والمتعددة تبعا لمزاج الحاكم الذي دائما مايسمى في قاموسهم برجل المرحلة أو قائد الضرورة أو بشتى المسميات الاخرى والتي ربما قد تتقاطع في أحيان كثيرة مع اسماء الله الحسنى". إن هذا الاستبداد وبجميع نواتجه ولد ضغطا استثنائيا لدى الجماهير العربية، انفتقت عنه حالة انقلاب هيستيرية أدت إلى نوع من أنواع الثورات الملونة على شاكلة بما يسمى "بثورات الربيع العربي" لتضع العالم العربي امام حقبة نظام حكم جديد على أطلال أنظمة حكم بالية ومستهلكة قد انتهى دورها في تنفيذ مآرب وخطط قوى الاستكبار العالمي. فكان البديل الذي أوهموا به الشعوب العربية هي"الديموقراطية المفصلة بفصال خاص" للحد الذي لايستقيم فيه أمر الأمة والمجتمع في حال ممارستها واتخاذها كتجربة لتطبيق تجربة نظام الحكم الجديد، وكواحدة من آليات نظام الحكم البديلة المناظرة للنظم الساقطة بعد غياب تام للأمة العربية التي أنهكها الاستبداد وبدد جميع تطلعاتها في الرقي والتقدم والازدهار، ووضعها في خندق التخلف والعنصرية والكبر والفخر واحتقار بقية القوميات والملل، وجعل منها أمة حاضنة للارهاب والعدوان وإلغاء الآخر، وتكفير وإنكار الآخرين، فصار وللأسف الشديد العرب ذي الاكثرية السنية في واد وجمهور المسلمين في واد آخر، لا بل صار مبلغ عدائهم لبعض اخوانهم في الدين على أشد مايكون عليه العداء، فبلغ المرتبة الاولى ليتبوء عدوهم الحقيقي المراتب المتأخرة من قائمة العداء فامسى هذا المعضل جزء من ثقافة العرب على حساب "قوميتهم العربية ودينهم الحنيف وقضيتهم المركزية" متناسين بذلك سخط ربهم، وعدم رضاء نبيهم(ص) عليهم، وعتب اخوانهم من جمهور المسلمين، وأنهم رغم ذلك لم يتحفظوا في تبيان تلك المفاضلة وعلى الملأ وفي جميع المناسبات. ليس هذا فقط، فالطامة الكبرى في أن وعاظهم جبلوهم ومن خلال مدارس وهابية تيمية فكرية متخصصة ومنتشرة في كل مكان باصطناع عدو اسيتراتيجي ووهمي وافتراضي وخطير قد يقض مضاجعهم في أية لحظة بزعمهم، ويقصدون بذلك"الشيعة" الذين يرمونهم بالشرك والتكفير، إنه توجه عجيب وغريب لم يسلم منه حتى بعض مذاهب"الأشعرية" الذين يرمونهم بالزندقة والفسوق والركون للشيعة. تصوروا إذا ذكر في مجلس أحدهم الشيعة أو الشيعي "ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به" لكنه لايتوارى ولا يسكت، بل يذهب إلى أكثر من ذلك، من حيث انه يعربد ويزمجر ويولول ويتباكى بدموع التماسيح على بيضة الإسلام من خطر الشيعة، كما فعل ذلك شيخهم "محمد حسان" الذي رأيته بأم عيني من خلال طلة له من احدى شاشات التلفزة، وغيره يذهب إلى أكثر من ذلك من امثال"العرعور" ومن هو على شاكلته، فيتحول بالتهديد والوعيد إلى ضبع مسعور ويكأنه"طنطل بن شداد"، ونقول لهم في هذا النمط السيئ من مشايخ الفتنة والتكفير مصداق قول الآية الكريمة:"لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ". أما معظم دعاتهم ووعاظهم فلا يعلمون الناس في مدارسهم ومساجدهم الا على الكذب والمكر والافتراء والتدليس والتكفير والارهاب، ويكأن الدين الاسلامي لا هم له ولاهدف له، إلا معاداة الشيعة وتكفيرهم وقتلهم واخراجهم من الملة بشتى الطرق ولو كان ذلك على حساب الثوابت والمسلمات وعلى حساب أمور أخرى ليس من اللائق ذكرها في هذا المقام، فكانوا يعلمونهم بأن الشيعة يقولون في الأذان "بأن عليا ً رسول الله". بعد هذا الاسهاب أريد أن أتوصل إلى حقيقة أن العرب "السنة" لم يأبهوا إلى ماصولوا اليه من تداع وتخلف وغياب يكاد ان يكون تاما في المجتمع الدولي بسبب قبول تعايشهم مع حالات الاستبداد والتسلط من قبل الحكام من جهة، ومن جهة اخرى غض النظر عن استشراء الأفكار الشاذة والمتشددة التي غزت البيت العربي"السني" ومزقت الدين وهدمت اركانه من قبل العصابات التكفيرية الاعرابية والوهابية وركون البعض منهم اليهم بسبب عدم وجود مرجعية دينية واضحة تستظل بظلالها جميع المذاهب السنية وترسم لهم خارطة الطريق بعد فرز الغث من السمين، ماحدا بهؤلاء الاعراب ووعاظ السلاطين أن يأخذوا دورها ويهيمنوا على المجتمع العربي بالتضليل والكذب والتدليس والمكر والغدر والفجور وقلب الحقائق وخلط الأوراق تحت عباءة وغطاء الدين, والدين منهم براء. وفي هذه الحالة لايستطيع عرب السنة بعد الآن أن يحذوا حذو اخوانهم الشيعة سواء من العرب أو العجم أن يقولوا كلمتهم في استرجاع عقولهم أو التحرر من ربقة العمل بالعقل الجمعي، أو حتى أن يتخذوا قرارا فاعلا وناجعا ومصيريا في الوسط العربي والاقليمي والدولي بنبذ هؤلاء واستئصالهم لأنهم صاروا بسبب نزعة الحكام ورجعيتهم وعدم نزاهة وعاظهم ليسوا بأصحاب قرار وتقرير مصير، وهذي فلسطين خير شاهد على هذا التداعي المزمن الخطير. إن الشيعة وقد حزموا أمرهم بالمضي قدما باحترام مبادئ التعايش السلمي والتعارف وقبول الآخر والتعاون مع جميع المكونات الاسلامية المخالفة، وغير الاسلامية، الكافرة وغير الكافرة على أساس العدل والمساواة وحق العيش والحياة وحق المواطنة، وأن الدين والأرض لله يورثها لمن يشاء من عباده، والعمل على احترام المباديء الانسانية ومبادئ الدين الاسلامي الحنيف بمبدأ "أن لافرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى، وأن أكرمكم عند الله أتقاكم". وأن لا وجود للحقد والكراهية والعداوة والبغضاء والتكفير لأحد في قاموسهم على الاطلاق، إلا من وضع نفسه بنفسه في هذا المضمار من الصهاينة والاعراب والدواعش، والنواصب ممن نصبوا العداوة لله سبحانه، ولرسوله الأكرم وأل بيته الكرام"صلوات الله عليهم اجمعين"، ولا يتحفظون في ذلك الا في حال إزالة الأسباب والمسببات، وهذا المبدأ ثابت عندهم لايمكن بأي حال من الأحوال تركه أو الحياد عنه، خاصة بما يتعلق بحبهم واتباعهم للرسول محمد(ص) ومن بعده عليا واولاده المعصومين حجج الله في ارضه(ع) تيمنا بقول الرسول الأكرم وهو القائل(ص) :"مَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ أَحَبَّنِي ، وَمَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيًّا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ، وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ " ، وقال (ص): "علي، مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي"-وهذا غيض من فيض-. خلاصة القول ولانقصد المفاضلة، أن آثار هذا الإبتلاء الذي ابتليت به هذه الأمة قد طال السنة والشيعة على حد سواء، بفارق اختلاف نسبي في تطور نظام الحكم السياسي والعقدي لدى الطرفين، بلحاظ أن السنة اعتمدوا نظرية"حسبنا كتاب الله" واعتماد "نظام الشورى" الذي سرعان ما انقلب إلى "نظام التوريث"وإلى نظام الانقلابات والسيطرة على نظام الحكم بالقوة، وعدم تداول الاحاديث النبوية الشريفة والأخذ بها ومن يفعل ذلك يقام عليه الحد خاصة في العصر الأموي، مما أفرخ لديهم الاستبداد والإستئهال بالسلطة، بينما التزم الشيعة بوصية النبي(ص) منذ التحاقه بالرفيق الاعلى وإلى يومنا هذا، بالتمسك بالثقلين كتاب الله الذي لايأتيه الباطل, وبعترته أهل بيته (ع)، واللذان لايفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهذا هو نصها:"إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل، وعترتي،كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني بهما أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "، فصار هذا دستورهم الذي أدى إلى تطور نظام الحكم عندهم فيما بعد من خلال اتباع المرجعيات الدينية والحوزات العلمية المكملة لخط الولاية والتي تطور بعضها إلى انتهاج "ولاية الفقيه" كأحدث نظام حكم لتغطية كافة الشؤون التي يحتاجها الناس لتنظيم معايشهم، وهو النظام الذي يزاوج بين الديموقراطيات والانتخابات الحرة واطلاق الحريات وقبول الآخر واعتماد التطور العلمي في تطوير الحياة واحترام الإنسان كقيمة عليا في المجتمع الحضاري وفق نظريات ومبادئ الإسلام الحنيف المبني على انتهاج الولاية بالاجتهاد والتأويل، مع الأخذ بمبدأ ان "لااجتهاد مقابل النص وخاصة النصوص القطعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة"، والأخذ بأحكام القرآن الكريم واحترام السنة النبوية الشريفة ووصايا الرسول(ص) والإئمة المعصومين(ع) من بعده هو مبدأ راسخ عند الشيعة. ولدينا في ذلك مثالين من ادق الأمثلة وأروعها تطابقا مع طبيعة نظام الحكم المعتمد على وفق السرد الآنف، فهذه ايران الشيعية التي تحترم جيرانها واشقائها من العرب والمسلمين وتمد لهم يد العون والمساعدة من خلال دعم حركات التحرر في مقاومة الاحتلال كما هو الحال في الأراضي المحتلة من قبل الكيان الصهيوني، ومقاومة الارهاب والدواعش خوارج العصر كما هو الحال في لبنان وسورية والعراق ومناطق أخرى،هو خير شاهد, -ولما قارعت الكيان الصهيوني الغاصب، ودعمت المقاومة الفلسطينية، وضعت وللأسف في اعلى مراتب العداء العربي-, فضلا عن انها بنت لها مكانا مرموقا على المستويين الاقليمي والدولي بفضل حنكتها السياسية والديبلوماسية، ووضعت لها موطئ قدم في ركاب الدول الصناعية المتطورة الكبرى، هذا واستطاعت ايران بفضل حسن ادارة نظام حكمها وصبرها وحكمتها، وبفضل حسن ادارة اموالها ومواردها الطبيعية والاقتصادية، تمكنت من مداولة ملفها النووي بكل ارادة وإقتدار وارغمت الغرب على التوقيع والاقرار بالاتفاق النووي، وبذلك أصبحت ايران الآن من الدول النووية والصناعية الكبرى، ووضعت لنفسها مركز صدق وثقة على المستوى الاقليمي والدولي يشير لها بالبنان والاحترام والاقتدار. وتلك العربية السعودية السنية تتاجر بنفطها وتخصيص ريعه للانقضاض على جيرانها واشقائها واذلالهم واستهداف طاقاتهم البشرية والاقتصادية وتخريب بناهم التحتية من خلال زرع الفتن وتبني فتاوى القتل والتكفير وتبني داعش والارهاب والاضطهاد ونشر المدارس المختصة لتدريس هذا الفكر المنحرف على شتى بقاع العالم ومداهنة الكيان الصهيوني، وقمع حركات التحرر، وتزعم الثورة العربية المضادة، وآخر انجازاتها العدوان الجائر على الشقيقة العربية المسلمة اليمن السعيد بحرب غير متوازنة بما اسمته بعاصفة الحزم ظلما وجورا, فجعلها بعضهم ممن هم على شاكلتها في اعلى مراتب الاخاء العربي والاسلامي، وهذا سببه يعود إلى قصور العقل العربي ومرض القلب في تقييم الأمور والحكم على النتائج والتي تعد كواحدة من سنخ النظام العربي ونواتجه الممتدة من عصر معاوية ويزيد، و"القلوب كما قالها الامام علي(ع) أوعية فخيرها أوعاها للخير".
|