عقلية عوام ، طبيعة قطيع ، نفسية عبيد

هل صحيح اننا اصبحنا اشلاء شعب غائب او محتضر، وهل صحيح ان هذا الشعب الذي استسلم عقله للضغوط التي تمارس عليه لتنتزع منه فكره وهويته ومستلزمات وجوده، ولتأخذ منه اعترافاً بالواقع، وتفرض عليه تعايشاً مع الباطل، قد اصبح شعب يحمل عقلية عوام، وطبيعة قطيع، ونفسية عبيد؟!

ان القراءة الموضوعية لكل ما يحدث على الساحة العراقية من وهن وتخلف وانعدام اخلاقي وغياب حضاري وازمة فكرية... تدفعنا الى الاعتراف، بأن هذا الشعب اوشك ان يفقد مقوده وبخاصة الايماني، وتخلى عن دوره في صياغة المشهد الحضاري، وتوقف عن السير في الارض، وانزلق نحو زمن يتجه صوب الاموات و ولائم الاجداد في المقابر، حيث فقد العراقيون ذاكرتهم واكتفوا باستضافة الماضي بكل ماضيه، واستهلاكه، وامتهان البحث فيه، وتجديد فتنة الخلاف حول دقائقه وتفصيلاته في بحوث مرضَّية، تحول دون قراءته قراءة صحيحة لتكرس حالة الاغماء التي يسعى العقل الجمعي للهروب من خلالها الى اسقاط الفشل على التاريخ والواقع والآخر...

قد يبدو هذا الاعتراف مؤلماً ولكنه التفسير الواقعي لحالة الوهن التي اقترفتها عقول السلف ومارست موبقاتها، وهو التعبير الصحيح عن العجز الذي اصاب عقلنا وألحق به اصابات مفزعة جردته من أبسط مقومات التفكير والابصار، وابعدته عن حركة النهوض، واكتشاف السنن، واورثته عطالة فكرية منعته من الاستقراء، وكرست فيه فقه الخوف والجبن وجلد الذات والركون الى اجترار ماضي السلف والاشتغال بألقاء الاتهامات وتقليد الآخر، والاستهانة بالمراجعة والعمل والتقويم، وادراك سنن الكون واحداثه، تمهيداً لايجاد صياغة مناسبة لما يطرأ من مشاكل وما يستجد من تحديات.

ومن خلال هذا النمط الغثائي الذي سيطر على عقلنا وسلوكنا في عالم ألغيت فيه انسانية الانسان، واهدرت فيه حقوقه، امتدت ازمة العقل العراقي، فأصبح بناء المواقف قائماً على الهوى والاماني بدل الاستقراء والاستنباط، وتحولت قراءة التاريخ بشموليته الى منهج انتقائي تابع للابتزاز السياسي وقائم على التعميم واجتزائية النظرة او الاستعانة بعيون الآخرين، في ايجاد ما يلائم الواقع منه وما يخدم المصلحة الآنية الرخيصة للافراد والفصائل، وبذلك عجز هذا العقل عن الارتقاء الى درجة المنهج الذي يستمد منه اصوله، وانفصل عن جمهوره،

وألتزم دائماً بالرفض او الهروب، ولم يستطع ان يتحول الى مرحلة القومية ومن ثم العالمية ومحاكاة العبر بل وفشل في ادارة أبسط المعارك تاركاً كثيراً من المواقع لغيره يعيشون بها على قلة اهليتهم مثلما يشاؤون.

ان عراقنا اليوم الذي يزد عدد سكانه ضمن الواقع الجغرافي عن (25) مليون نسمة، والذي تتجاوز مساحته ( كذا ) من الكليلومترات والذي يتمتع بوجود موارد وامكانيات هائلة من الثروة.. هذا البلد لم ينجح شعبه ولا حكوماته المتعاقبة على تخلفه وانحطاطه.. في صياغة مشروع لديمومة وحدته الوطنية او طرح بديل لسقوطه او ايجاد سوق فكرية وطنية مشتركة... ولم تستطع ان تحقق الشروط الكفيلة باعادة بنائه او استقلاله او الخروج من ازماته او اعادة الثقة بين ابنائه للاعتراف بقدرة منهجية على حل مشاكلهم او توفير ضمانة لبناء مستقبلهم.

كل ذلك... بسبب غياب البرنامج الحقيقي للاصلاح او الطرح المناسب للتغيير، بعيداً عن عمومية الشعارات وضبابية الافكار... رغم فشل كل النخب الوطنية والقومية والعلمانية واليسارية والدينية... في التحدث بأسم جماهير الشعب وتحقيق اراداتهم طيلة اكثر من قرن، رغم المحاولات التي يبذلها الدعاة الوطنيون الذين وصلوا الى هامش الحكم في تمكين مشروعاتهم من طرح البديل.

نعم، لدى البعض منا كثير من الشعارات والافكار ولكنها ليست واضحة ولدينا كثير من البرامج ولكنها لم تزل طي العلم النظري البعيد عن الواقع والممارسة، فلا بأس اذن، ان يتحاور اصحاب التيار الوطني البديل مع انفسهم قبل ان يتحاوروا مع الآخرين، اذا كانوا حقاً يصبون الى طرح النموذج البديل للتغيير والاصلاح. فكثير من تجارب هذا وذاك ليست شهادة حقيقية مقنعة لما تطرحه شعاراتهم، ومن حق البعض ان يسمعوا من هذا الطرف او ذاك كلاماً آخر عن رسالاتهم السياسية والدينية، ومن حق الشعب عليهم ان يضع حداً لكثير من الشعارات والافكار الغامضة، وان يعرف الى اين يقاد من قبل هولاء، وكيف، في معاركهم من اجل مستقبل البلد.

ان بين ايدينا اقتراحات كثيرة للخروج من هذه الغثائية التي نعيشها، واول هذه الاقتراحات، هو اصلاح التفكير وتطوير الاسلوب في التعامل مع المنهج وفي النظرة الى المفهوم، ذلك اننا لا نفتقر الى القيم وليست مشكلتنا مشكلة انتاج فكري فحسب، بل ان المشكلة التي نواجهها هي مشكلة عقل عاطل عن التفكير وغير قادر على التعامل مع هذه القيم. ولذا فان ايجاد ميثاق للعدل والشورى وحقوق الانسان هو الخطوة الاولى في طريق اصلاح الفكر، وهو الشرط الاول لتغيير مضامين المعرفة والتربية ووقف الفساد والعبث، اضافة الى اعادة دراسة موضوع التقليد والاتباع في اقامة مشروعنا النهضوي الحضاري بمختلف الاراء المطروحة فيه.

ربما بمقالنا هذا نساعد بعض المهتمين بطرح المشروح النهضوي الوطني العراقي عبر الاستفادة من التاريخ وتطبيقاته في بلورة استراتيجية واقعية تعين على تجاوز ازماتنا وتطرح بمعرفتها الجديدة توجهات اخرى للتحرر من الاستبداد والفرقة والجمود الفكري وذلك لتأسيس بنيان النهوض الحضاري الذي يسعى اليه العراقي ولا يتم ذلك الا عبر اجتماع عنصرين مهمين هما التعبئة الايمانية الشاملة واعادة صحوة العقل والضمير لمجموع الشعب العراقي، واستنفار ارادته وحشده بالوعي نحو اهدافه ورسالته وتحرره الفكري والنفسي والسياسي من بقايا التخلف والهزيمة.

ولعل هذا التخطيط الانجازي الملازم لمشروع النهضة الوطني لا بد ان يعتمد على العقلانية في العمل والاسلوب، وعلى الواقعية في الطرح والاعتماد على الذات في البناء باعتبار ان التنمية الحقيقية لأي مشروع لا تتحقق الا في اطار ثقافة الشعب وامكانياته، وهذا ما يفسر عجز هذا الشعب عن اقامة اي مشروع وطني نهضوي او تنموي طيلة العقود الماضية.

ان السبيل كما قلنا لخروج عقلنا من غثائية هذا الواقع لا يمكن ان يتحقق الا بطرح مشروع للمستقبل لا سيما بعد هذا الخراب الذي اصابنا وحكم على اجيالنا بأختيار الموت على الحياة قبل الولادة.

ولا بد لهذا المشروع المستقبلي اولاً ان يدرك معنى التوجه نحو الزمن... الزمن الذي يفهم الموت على انه هو الحياة وعلى ان صناعة الواقع وابداعه هو المبرر لايجاد المستقبل واستمرار الوجود... فالقلوب الواهنة التي اخبرنا عنها رسولنا (ص) في حديثه الشريف لا يمكن ان تحسن صياغة المستقبل وخاصة حين تتداعى عليها الامم والحضارات.. "يوشك ان تتداعى عليكم الامم كما تتداعى الأكلة الى قصعتها. قيل: او من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل انتم يومئذ كثر ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

ان الجبن هو مفتاح القلوب الواهنة، فالجبان لا يمكن ان يواجه مسؤوليته ولا يستطيع ان يقوم بدوره في العمل والتفكير بل يكتفي دائماً بأوانه الآخر وهجاء الحاضر والزمن وينسحب من الواقع بدعوى الورع والاكتفاء بالرفض او الانحياز العاطفي او الجنوح الى ممارسة العبادات الفردية خوفاً من المعاناة وتبريراً لعدم القدرة على مواجهة الازمة والاستجابة لسنن الله في التغيير والتدافع والتعاون والتداول ومقاومة الظالمين.

ان مشروع المستقبل الذي نطرحه هنا في هذه المرحلة التي تشهد اعسر حالات المخاض الفكري والسياسي والاقتصادي في وقت يعاني فيه الكثيرون من ضآلة المساحة المتروكة للاجتهاد والابداع وانحسار الحرية الحقيقية المسؤولة وتحولها الى شعارات معلبة مدموغة بالتبعية والتبرير للوصول الى حلوى السلطة.

هذا المشروع لا يمكن ان يقوم الا على أسس صادقة من الايمان بالله والعمل لخدمة الشعب، ذلك ان اسلام القلب لله وحده يحرر الانسان من كل تراكمات الخوف والجبن وينزع من صدره اي خضوع لغير خالقه، تمهيداً لانتشار هذا النموذج الانساني بين المجتمع دليلاً وبرهاناً على صحة المنهج وقدرته على التغيير والتطوير والاصلاح.

ان من اهم مقومات نجاح اي مشروع هو الولاء لله اولاً ومن ثم الولاء الى التنظيم، ذلك ان التمترس خلف (سيف الحرام) وفقه (المقدس) وعدم الخروج عن الصف.. هذه وغيرها من اهم اسباب الازمة التي يخشى ان تطيح بأي عمل مخلص يهدف الى اخراج الشعب العراقي من غثائيته، اضافة الى انه لا بد من ادراك المفهوم القرآني في الحث على اقامة حبل او وصل مع الله ومع الناس ضمن مخطط حواري يسع الآخر مذهبياً واثينياً، ويستوعبه ويتعالى بروح الاسلام عن كثير من المفاهيم المغلوطة والاسقاطات التي افرزتها مراحل التدهور والهزائم...

ان واقعنا الذي لمسنا بعض جوانبه ورسمنا شيئاً من ملامحه في مقالنا هذا، هو حصيلة لحالة الوهن الذي اخبرنا بها رسولنا محمد (ص) ومسؤوليته تقع على عاتقنا، ولكن المستقبل القريب او البعيد سيحمل لنا اشياء اخرى وسينبلج ذات يوم فجره بطلع جديد، ذلك ان هذا الشعب قد ظل طيلة تاريخه محفوظ بمنهج الله الخالد وقرآنه العظيم الى يوم القيامة...

قال تعال: "اما الزبد فيذهب جفاء، واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض"

صدق الله العظيم