حينما يدخل الميل في المكحلة ستثبت الرؤيا ويقوم الدليل


تذاكى أحد نواب منظمة بدر وهو يحشر نفسه حشرا بين محاربي الفساد, فما دامت هذه هي الحال فلماذا لا يتصدر الحشود لكي يتخذ حصته في إدانة الظاهرة ويخرج من المولد بالحُمِّص, سواء ذلك الذي يدره الفساد وذلك الذي تدره محاربته.
سيدنا النائب الذي أكاد أشم رائحة الكوكو شانيل وهي تفوح منه مخترقة شاشة التلفاز, لم تفته فرصة تعليمنا الطريقة المثلى لمحاربة الفساد حينما شدد على ضرورة أن تشارك الجماهير في مكافحته ولكن على شرط أن تملك ما يكفي من الوثائق قبل ان تتقدم بشكواها. في رأيه أن غياب التوثيق يساهم في حماية الفساد والفاسدين كما يؤدي بدوره إلى التشهير بأشخاص أبرياء. 
موعظة السيد النائب تذكرني تماما بالقصة التي تتحدث لنا عن الزاني الذي أتى به ثلاثة شهود لكي يشهدوا على واقعة رؤيته وهو يرتكب الزنا فأصر القاضي عندها على مقاضاته إذا ما توفر شاهد رابع. وبقية القصة معروفة فلقد أصدر القاضي حكمه بالجلد على الشهود الثلاثة بتهمة التشهير بالسيد الزاني. عبقرية النائب لا شك قد تفتحت على طريقة ذكية لمحاربة "محاربي" الفساد, فما داموا سيعجزون عن توفير الأربعة شهود الذي يقسمون على المصحف بأنهم رأوا الزاني وهو "يدخل الميل في المكحلة" فلا بد عندها من جلدهم بعد إعتبارهم الجناة الحقيقيين.
أقول إن ذكاء السيد النائب ليس له حدود, فهو يطلب من الجمهور أن يقوم بدوره في محاربة الفساد, أن يحمل الواحد منهم كاميرا وجهاز تسجيل صوتي لكي يوثق مشهد الفاسد وهو يقوم بإستلام الرشوة, وكأنه يطلب من البلد أن تنام كلها في الشوارع وذلك على رأي "عادل إمام" الذي سأله القاضي لماذا لم يبدل سكناه إذا كان يعرف أن جارته رقاصة. ثم هو يتغافل عن حقيقة أن الفساد الذي نتحدث عنه والذي أفرغ ميزانية البلد وأجاع الناس ليس ذلك الذي يتم تحت الطاولة, أو الذي يمكن وضعه في كيس ورقي لكي يستلمه المرتشي وإنما هو بالملايين التي تتحول من شركة إلى بنك بأقل من لمح البصر وبوسائل تقنية لا يمكن للناس ان تكتشفها.
إن الفساد الذي نتحدث عنه لا يحتاج إلى كاميرا أو جهاز تسجيل لرصده وتوثيقه ولا إلى أربعة شهود لكي يؤكدوا على رؤيتهم لميله وهو يدخل في مكحلة العراقيين, بل أنه ذلك الذي يتحرك فوق الطاولة لا تحتها والذي يتباهى بإرتكابه الزناة دون أي مواربة أو خجل. الكارثة الحقيقية أن السيد النائب وأمثاله لا يعتقدون حتى هذه اللحظة أن بقاء أزمة الكهرباء وتفاقمها منذ ان تنعمنا بالحرية على يد فرسان الإحتلال بشقيه الوطني والأجنبي هي دليل على فساد ليس بحاجة إلى مزيد من التوثيق, وإن تردي الخدمات العامة وإنهيار البنى التحتية للصناعة والزراعة هو أيضا لا يحتاج توثيقه إلى أجهزة تصوير او تنصت. وهو لا يريد ان يضع في خانة الفساد الرواتب الباهضة والمخصصات التي يتلقاها فرسان العملية السياسية, إبتداء من رئاسة الجمهورية ونزولا إلى الوزراء والنواب ورؤوساء وأعضاء مجالس المحافظات ورؤوساء المؤسسات والمدراء العامين والسفراء والقضاة وقواد الجيش من أولئك الذين لم يصمدوا للحظة أمام داعش. ثم كأني به لا يعترف بأن وجود العدد الهائل من الحمايات المتحركة والثابتة الذين يستنزفون المال العام ومثلهم عشرات الألوف من أعضاء الأحزاب والميلشيات الذين يتلقون رواتب مقابل تدميرهم للبلد وإخلالهم بأمنه الوطني هو أيضا فساد لا يحتاج إلى توثيق. ولا يعتبر ان المحسوبية التي باتت هي الشرط الذي يجب توفره في الأغلبية المطلقة من موظفي السفارات تدخل أيضا من باب الفساد وتعيش عليه.
مشكلة السيد النائب أنه يدلنا على فساد ما تحت الطاولة ولا يقف أمام الفساد الأكبر الذي يتم ما فوقها. ثم إذا به أيضا لا يتوقف عند ذلك وإنما نراه وهو يتشاطر علينا بطريقة يظن أنها الأفضل, ليس لمعالجة الفساد, وإنما لإلقاء تبعة الفشل في معالجته على الناس المتضررين الذين يحرمهم حتى من حق الشكوى ما داموا غير قادرين على التوثيق بالصورة والصوت. حتى أنه يدعوهم إلى إستذكار قصة دخول الميل في المكحلة, وكيف أنهم سيكونوا مهددون بالجلد شرعا ما لم تكن لهم القدرة على توثيق جريمة الزنى.