عزيزي القارئ الكريم,, ما ستقرأه في السطور التالية قصة حقيقية رواها لي أحد الاصدقاء الاعزاء وهو من الثقاة العدول حيث ذكر لي كل التفاصيل التي أحاطت بها ولم أقم سوى بتقديمها ضمن صياغة لغوية تجعلها صالحة للنشر مع بعض التعقيبات الضرورية للتماسك القصصي .
تبدأ قصتنا في العراق عام 1984 عندما أقترن سالم مع سعاد , وكحال كل الزيجات قدّم سالم مصوغات ذهبية أثناء الخطبة والزواج إضافة الى هدايا استلمتها سعاد من أهلها على شكل مجوهرات وحلي ذهبية بعضها كانت ترتديه منذ طفولتها وهذا ما يصطلح على تسميته " الزينة والخزينة" . وفي عام 1986 غادر سالم وسعاد العراق الى الخارج لنيل شهادة عليا وكان الظن أن العودة ستكون في غضون اربع سنوات عند إكمال متطلبات الدراسة . لذا تم وضع هذه المجوهرات في أحد صناديق الامانة التابعة لأحد فروع مصرف الرافدين حيث يحتفظ المودع بمفتاح للخزنة ويقوم المصرف بالاحتفاظ بمفتاح اخر فلا تفتح الخزنة الا بالمفتاحين معا.
ومضت السنين واهل سعاد يقومون بدفع قيمة الايجار السنوي للخزنة المصرفية التي ظلت في حرز أمين. وعند قرب انتهاء دراسة سالم في نهاية عام 1990 وقبل إتخاذ قرار العودة للوطن حدث التصدع الاول في بنيان الدولة على اثر حرب الخليج الاولى في عام 1991 . لذا بقت الاسرة خارج العراق وحصل سالم على عمل يعينه على توفير حياة كريمة لاسرته . ومع هذا ظل هاجس الشوق للعودة الى العراق يداعب مخيلة الزوجين وظنا انهما سيعودان مع اولادهما الى الوطن بعد أن تنقشع الغمامة السوداء التي أجتاحت العراق أثناء وبعد حرب 1991 . ولكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر وازدادت الامور سوء ونذر الشر تحيط بالعراق بشكل لم يسبق له مثيل.
ومضى عقد التسعينات والكل يوقن ان العراق مقبل على متغيرات جذرية قد تهز كيان الوطن من الاساس .. وكمثل الاف العراقيين الذين تركواالبلد وارتضوا الغربة استقرت اسرة سالم خارج العراق وبدا لهم جليا ان فكرة العودة في هذه الظروف هو امر لاعقلاني ولامجال للتفكير فيه الان , الى ان جاء عام 2003 فحدث الطوفان وانهار النظام وسقطت الدولة في نيسان من ذلك العام . وعندما سقط الامن والنظام حدث ما كان المرحوم نوري السعيد قد تنبأ به قبل ستين عاما .... حيث أزيح غطاء المجاري (السبتيتنك) عن موضعه وخرجت الصراصير والحشرات ممثلة باللصوص والاوباش والحواسم الخ من هذه التسميات المقيتة تعيث فسادا وحرقا لممتلكات الدولة ودوائرها الرسمية ونهبا للمصارف التي أودع الناس فيها أموالهم ومدخراتهم . وقد نال فرع مصرف الرافدين الآنف الذكر حظه من النهب إذ هاجم السراق في خضم الفوضى السرداب الذي يحتوي على الخزائن الحديدية على شكل صناديق أمانة وأستعملوا كافة وسائل التخريب من أجل فتح الصناديق المحصنة حتى أنهم ثقبوا جدار السرداب من الخارج تسهيلا لفتح القاصات الامينة. ثم غمرت المياه والاوحال ارضية السرداب المظلم فخرج اللصوص فرحين بما غنموه من أسلاب .
ومن على بعد الاف الكيلومترات كانت سعاد تشاهد من على شاشة التلفاز تقريرا اخباريا بثه أحد المراسلين الاجانب وكان الفلم المصاحب للتقرير يصور اللصوص وهم يحملون غنائمهم من هذا المصرف بالذات ,, فأنقبض صدرها ألما وهي تشاهد المصرف الذي أمنت فيه وديعتها وخزينتها وصفحة من ذكرياتها الجميلة وهو مستباح بأياد قذرة لوجوه لا ترى الا في كل مسوءة كما وصفهم الامام علي عليه السلام . وجرى الدمع ساخنا من عينيها وهي ترى بلدها يتكالب عليه حكامه و الغازي المحتل والغوغاء في رابطة عجيبة هدفها الوحيد القضاء على كل شيئ جميل في هذا البلد المسكين وأقتلاع أية زهرة نبتت يوما في ارض الفراتين .
وبعد أن انقشعت سحب الفوضى وعاد ما يشبه النظام الى الشارع ظل الامل يراود سعاد أن صندوقها قد يكون قد نجا بأعجوبة من أيدي اللصوص وحاولت بعد أشهر الاتصال بأقربائها في العراق للاستفسار عن مصير خزنتها المصرفية فأعلمهم المصرف أن السرداب قد غمرته المياه بالكامل وأنه يتعذر عليهم أن يتأكدوا إن كان هناك ثمة صناديق قد نجت من الكسر أو السرقة وأن عليهم الانتظار الى ان تهدأ الامور ويتم البحث عن الباقي من الودائع . وقد عمل الاحباط وتوالي الايام والسنين على زرع اليأس في نفس سعاد وسالم من أمكانية العثور على ضالتهم النفيسة الى أن أخبرها قريبها بعد سنوات أن تقوم بتهيئة وكالة خاصة له لعل وعسى أن يعثر يوما على الابرة المفقودة في كومة القش هذه . وحينما راجع قريبها المصرف بهذه الوكالة الخاصة رفضها البنك وأخبروه إنه قد تناهى الى سمعهم بأن هناك من زور بعض الوكالات طمعا في الاستيلاء على بعض الصناديق التي نجت من السرقة وأن المصرف يفضل أن يقوم صاحب الصندوق بنفسه من المراجعة . لذا عاد وطلب منها ثانية أن تهيأ له وكالة عامة وأن تقوم كذلك بارسال مفتاح الخزنة عسى أن يطمئن المصرف لمشروعية طلبه . وعندما راجعهم بعد فترة مستصحبا الوكالة العامة ومفتاح الخزنة وعددا من المستمسكات التي تثبت شخصيته أقتنع المصرف ورافقه بعض الموظفين للبحث عن صندوق سعاد وسط أكوام الصناديق الشبه محطمة والتي أختفت أرقامها وغمرتها الاوحال وتقادم الزمن. وحدثت المعجزة عندما قام بأدخال المفتاح في أحدى الخزنات فأنفتحت وتم العثور على صندوق سعاد الذي نجا بقدرة قادر من الكسر والسرقة . ومن ثم قام المصرف بجرد دقيق لكل محتويات الخزنة وتم تسليمها الى قريب سعاد وهو غير مصدق لما جرى . وحالما وصل البيت قام بتصوير محتويات الخزنة قطعة قطعة وارسلها فورا الى سعاد التي بكت هذه المرة من الفرحة وهي تشاهد مقتنياتها التي تذكرها بأجمل أيام طفولتها و خطوبتها وزواجها .
وحقيقة الامر كما علموا بعد ذلك أن مدير المصرف النزيه قد قام بتشكيل لجنة من خمسة موظفين لجرد كافة الصناديق ونقلها الى فرع آخر للمصرف وقاوم كل محاولات المزورين الذين حاولوا أن يحصلوا على الصناديق الباقية بالخداع والتزوير . ومن ثم قام بتسليم الامانات الى اصحابها الشرعيين بعد أن دققوا مليا بكل من تقدم بطلب استرداد صندوقه . وهكذا عاد الصندوق الى سعاد وسالم بعد أن ظل في عداد المفقودين لأحد عشر عاما بالتمام والكمال .
والى هنا تنتهي القصة بنهاية سعيدة حيث يندر أن نسمع بخبر يسر القلب يأتي من العراق ,, فمعظم ما نسمعه يصيب النفس بالانقباض ويخدش السمع بروايات عجيبة عن الفساد تصيب أكثر المثقفين تفاؤلا بالاحباط والكابة . في عام 1944 قال شاعر العراق الخالد الجواهري في الذكرى الالفية لابي العلاء المعري
وللكآبة الوان وأفجعها أن تبصر الفيلسوف الحر مكتأبا
بارك الله في مدير المصرف النزيه المتفاني في إداء عمله وكذلك من بمعيته من الموظفين الشرفاء الذين ضربوا مثلا رائعا في الاخلاص لواجبهم وهنيئا لسعاد وسالم باسترداد وديعتهم التي دفع ثمنها من مال حلال ... وصدق من قال أن المال الحلال لا يضيع... وأود أن أضيف من عندي فاقول أن المال الحلال لا يضيع إن كان هناك ثمة رجال أمناء كمدير المصرف هذا ... وكل خوفي أن يندثر مثل هذا النموذج الرائع من البشر في العراق .... فنضيع نحن ويضيع معنا كل شيئ .