ما زال الحديث متواصلاً عن تلك الندوة التي أُقيمت في مركز الحرية في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو.. والمركز يناقش معنى الحرية عند الشعوب على اختلاف ثقافاتهم، وخاصة لأن الشعب الأميركي حصل على الحرية بعد الحرب الأهلية، والتي دار جزء منها على ضفتي نهر المدينة بين أهل القرية الواحدة؛ والتي لم يكن يفصل بينهما سوى مجرى النهر!
كان النقاش حادًا حول معنى الحرية لدى الفراعنة، وقد أجبت عن سؤالين في المقال الماضي.. أما السؤال الثالث فكان عن: كيفية فهم الفراعنة من ملوك وأمراء وموظفين وفقراء للحرية؟ وكانت الإجابة بأن الحرية لدى الفراعنة كانت حقوقًا وواجبات.. ومن الواجبات كان العمل الجاد المبدع واجبًا على كل فرد في المجتمع على اختلاف وضعه الاجتماعي والاقتصادي.. وكان هناك واجب نحو الفرعون، وهو إتمام مجموعته الهرمية لكي تستمر دورة الحياة دون خلل بعد وفاته.. ولذلك كانت العائلات الكبيرة التي تحكم في الصعيد والدلتا أن تجمع العمال وتُرسلهم لكي يشاركوا في بناء الهرم، وتُرسل أيضًا الشراب والطعام للعمال، وبالتالي كانوا يدفعون للعمال أجورهم من غلال وحبوب، وفي الوقت نفسه لم تكن العائلات تدفع للفرعون ضرائب، بل يتم إعفاؤهم نتيجة ما يقومون به تجاه إتمام المجموعة الهرمية، وخاصة لأنهم اعتبروا الهرم المشروع القومي لمصر، والذي كان يشارك في تنفيذه كل الشعب، وبعد إتمامه يستطيع الفرعون العبور بسلام إلى العالم الآخر؛ إيذانًا بجلوس وريثة الشرعي على عرش البلاد.
وكان يُقام احتفال صمم بواسطة عامة الشعب بعد بناء الهرم، ولم يكن العمال يعملون بالسخرة، وأهم دليل على ذلك هو أن مقابرهم بُنيت بجوار الأهرام، وأعدوها كاملة للعالم الآخر، ولو كانوا عبيدًا لما فعلوا ذلك، وأن هذا هو المعنى، فلم يستطع الفرعون أن يسخرهم، بل قدرهم وأعد لهم عيشة محترمة، بل ودُفنوا بجواره، بل إن الشكل الهرمي لم يكن قاصرًا على الملوك والملكات، بل من حق عامة الشعب أن يبني قبره على شكل هرم..
وقد أشرنا في المقال السابق عن الفرعون «تحتمس الثالث» وفهمه للحرية والديمقراطية، عندما أعطى تعليمات مباشرة إلى رئيس وزرائه «رخميرع» أن ينشر العدل الاجتماعي بين الناس، وأن يحكم من خلال الـ«ماعت».. الحق والعدل والنظام.
وسوف نرى هذا المعنى واضحًا أيضًا بين الفقراء من الفلاحين، وخاصة من خلال قصة الفلاح الفصيح، الذي حمل حماره ببضاعة من أعشاب وجلود لبيعها في مدينة إهناسيا، وعندما قضم الحمار من سنابل حقل مر به؛ أصر صاحب الزرع على أن يستولي على الحمار بما يحمله، واحتج القروي الفصيح ودافع عن نفسه وعن ممتلكاته؛ وذهب للعاصمة ليشكو هذا الموظف الشرير وترك لنا أجمل نصوص ببلاغة وفصاحة وهو يقدم شكواه للفرعون؛ ولذلك وبعد أن سمع الفرعون فصاحته أمر بإعادة ما سلب منه وكافأه؛ وعاقب الموظف الظالم؛ هذا هو الحق والعدل لدى المصريين القدماء؛ وحرية العيش
|