تباشير عهد فيينا

بعد أن زجّت حملة الانتخابات الأميركية «الاتفاق النووي» بين واشنطن وطهران في أدبيات السجال الانتخابي، بدا الاتفاق وكأنه اقتصر على شأن أميركي – إسرائيلي، واستطرادًا على مواجهة دبلوماسية - مباشرة وغير مباشرة - بين الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو.
منذ افتتاح جلسات مفاوضات الدول الخمس الكبرى (زائد واحد) في فيينا ظلت كل العواصم العربية مغيّبة عنها رغم معرفتها بأن أي اتفاق نووي إيراني - غربي سوف يكون منعطفًا مفصليًا في مستقبل منطقة يشكل العرب أكثرية كثافتها السكانية وبلدانهم مصدرًا رئيسيًا لنفط العالم الغربي وغازه.
مع ذلك لم تقدم عاصمة عربية واحدة على المطالبة – مجرد المطالبة - بأن تتشكل الجهة المفاوضة لطهران من الدول الخمس الكبرى (زائد اثنين) أي زائد دولة عربية أيضًا، إن لم يكن بحكم المقاييس الدولية للعظمة فبحكم الواقع الجغرافي على الأقل. وعليه، لا غرابة أن «تطوّب» مفاوضات فيينا مستقبل الشرق الأوسط لدولتين فحسب: إيران وإسرائيل.
لا يزال البعض في العالم العربي ينتظر من الرئيس أوباما تحقيق وعد خطاب القاهرة، عام 2009، بفتح صفحة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي.
ربما كان الرئيس أوباما، وجدانيًا، مؤمنًا بهذا التوجه. غير أن الست سنوات ونيفًا المنقضية من ولايتيه الرئاسيتين أظهرت أن قضايا العرب ليست على رأس أولوياته واهتماماته، فلو كانت كذلك لكان الرئيس ركز دبلوماسيته الشرق أوسطية على حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي على أساس «اقتراح الدولتين» الذي تبناه ودعا إليه منذ مطلع ولايته الأولى.
إذا كانت الذريعة الخفية لفتور سعيه لحل القضية الفلسطينية تعود إلى رغبة البيت الأبيض في تجنب «إغضاب» إسرائيل ومعاداة «اللوبي» الصهيوني النافذ في واشنطن، فإن «إغضابها» في سياق حل تاريخي للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي من شأنه أن يخلد اسمه ويرضي العالمين الإسلامي والعربي ويكون أكثر مردودًا سياسيًا واقتصاديًا للولايات المتحدة من «إغضابها» بسبب إيران وملفها النووي، كما هو الحال اليوم.
إلا أن اللافت على هذا الصعيد أن يعمد الكونغرس الأميركي إلى تقويم الاتفاق مع إيران من زاوية «خطره» على أمن إسرائيل وليس من زاوية مراعاته لاستقرار الشرق الأوسط ومصالح الولايات المتحدة.
ولكن إذا كان العالم العربي مقصرًا في إثبات وجوده في معادلات الشرق الأوسط السياسية والأمنية، ومنغمسًا في حروب دموية هي في نهاية المطاف حروب على الوجود العربي نفسه، فإن السؤال يبقى: أين مصلحة الولايات المتحدة في تجاهل العالم العربي... وهي التي لم تتوانَ يومًا عن تحميل النظام الإيراني قسطه في زعزعة استقرار الشرق الأوسط؟
من هذا المنظور كان يفترض بالولايات المتحدة التركيز على تعزيز مسؤولية العواصم العربية حيال استقرار منطقتها والسعي لإشراكها في محادثات فيينا ولو ممثلة بجامعة الدول العربية. والواقع، إذا صح ما تردد عن أن الاتفاق النووي يضع بتصرف طهران، بعد إقراره، 55 مليار دولار من أصل أرصدتها المجمدة – كما تؤكد وزارة الخزانة الأميركية - تكون واشنطن، عكس المطلوب منها عربيًا، قد عززت قدرة طهران على تمويل عمليات ميليشياتها الناشطة في سوريا والعراق ولبنان (غير مكلفة أصلاً للخزينة الإيرانية بدليل مواصلة تمويلها رغم المقاطعة الاقتصادية الدولية للنظام الإيراني).
أما على الصعيد الغربي، فإن تغاضي الاتفاق مع إيران موقع ترسانة إسرائيل النووي في المعادلة الشرق أوسطية الجديدة لموازين القوى لا يعطي فكرة عن تحيّز أميركي لإسرائيل بقدر ما يؤشر عن توجه غير معلن لتهميش الثقل العربي الاستراتيجي والدبلوماسي في المنطقة، إذ أن من شأن إقرار واشنطن للاتفاق مع إيران إعادة رسم الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط بحيث «يحشر» العالم العربي، وإلى أجل غير معروف، بين قطبين نوويين هما إيران وإسرائيل... فيكون الشرق الأوسط قد انتقل من عهد اتفاق سايكس - بيكو السيئ الذكر إلى عهد اتفاق فيينا الأسوأ قطعًا