في محنتهم وضياعهم، انصب تفكير العراقيين الآن على الماضي. جل ما تتفتح به قرائحهم، كتبا وشعرا وفنونا وأفلاما، يدور حول الماضي. أما المستقبل ففي ذمة الله. وهذا طبعا على عكس ما نلاحظه في أدبيات وفنونيات الغربيين. إنهم في هذه الأيام منشغلون بكوكب المريخ، وبلوتو. لم يعودوا يفكرون في صعودهم إلى القمر. أصبح هذا شيئا ماضيا. يفكرون الآن في الصعود للمريخ ويفتشون عن الحياة في بلوتو. وها قد وجدت نفسي قبل أيام حيال كتاب موسوعي ووثائقي آخر عن الماضي بقلم د. خالد السعدون «شذرات بغدادية». أكتب عنه لأنه كتاب ظريف يصور مدى تخلف العراق في مطلع القرن الماضي، فيضع تخلفه الراهن في منظوره التاريخي. وكأنك يا تيتي لا رحتي ولا جيتي. يعتمد الكاتب على تقارير القنصل الأميركي في بغداد في فجر سعي بلاده للتوغل في المنطقة (أوائل القرن العشرين). سألته شركة أميركية عن أملها في تصدير معدات كهربائية لبغداد. أجابها: لا أمل. فلا توجد كهرباء في العراق. السلطان عبد الحميد اعتقد أن الكهرباء هي الديناميت وتستعمل في صنع القنابل فمنعها. سألته شركة أخرى عن تصدير آلات كاتبة للعراق. أجابها: انسوا الموضوع. فالسلطان منع توريد هذه الآلات كليا لإمبراطوريته خوفا من استعمالها في طبع منشورات ضده. سألوه: هل من أمل في تسويق أفلام سينمائية لبغداد؟ لا أمل في ذلك. فلا توجد غير آلة عرض واحدة يسلي بها شخص واحد عائلته. ولا أمل في إقبال الجمهور على السينما لأنهم متخلفون لدرجة لا تمكنهم من فهمها أو الاستمتاع بها. سألوه عن توريد مطابخ عصرية، فقال: لا فائدة. فلا يوجد غاز أو غازولين في البلد. يصف الكاتب حالة الأمن والنظام فيقول إن الناس اعتادوا سماع إطلاق الرصاص طوال الليل، وتشييع الجنائز طبعا طوال النهار. وفي سعي الوالي لضبط الأمن، أمر السكان بأن يحمل كل منهم فانوسا أثناء سيره في الأزقة بعد الحادية عشرة مساء، وإلا فللشرطة حق إطلاق الرصاص عليه. ولم يكن ذلك أمرا خطيرا. فعدد كل الشرطة في بغداد لم يتجاوز السبعين. ولكن كان هناك سبعة محامين، بينهم مسلم واحد. وكانت الإدارة منشغلة دوما بالحروب الداخلية بين القبائل. وكانت بغداد مهددة بالغرق كل عام. واجتاحها طوفان جارف عام 1914. تحولت المدينة إلى فينيسيا يتنقل فيها الناس بالقوارب. ومن لم يجد قاربا أصبح عليه أن يستأجر حمالا يركب على ظهره ليعود به لبيته. لم يكن في المدينة أي شارع وكانت المدينة شبكة عنكبوتية من الأزقة التي لم يتجاوز عرضها المتر أو المترين. غير أن اشتراك تركيا في الحرب العظمى أوحى للوالي بشق طريق عريض مستقيم يمكن الجيش من المرور، وهو ما سمي بالجادة وأطلق عليه في العشرينات «شارع الرشيد»، الوريد النابض لحياة المجتمع البغدادي، يرتاده أرباب الأعمال وربات الحجال من بنات الهوى وتطل عليه «الكلجية»، المبغى العام للمدينة. بيد أن المستفيد الأول من الشارع كان الجيش البريطاني الذي سقطت بيده المدينة بعد ثلاث سنوات.
|