العراق يبلغ اخيرا سن الرشد.. وينفطم من عقدة صدام

مظاهرات العراق المدنية السلمية المطالبة بالاصلاح والتغيير التي اجتاحت مدن الوسط والجنوب وتفاعل معها ايجابيا كل باقي العراقيين من زاخو الى الفاو بمختلف فئاتهم  تنقل العراق اخيرا الى مرحلة البلوغ والعقل ومراجعة ونقد الذات وتقييم التجربة بسلبياتها وايجابياتها واقتراح الحلول الواقعية العملية التي تعالج المشاكل العديدة التي نعاني منها من دون التفريط بالمكتسبات التي حققناها حتى الان. المراجعة والتشخيص يتمان باستقلالية وبتعقل بدون اي تدخل خارجي وبدون فلاش باك او رهبة او ربط بما مر به العراقيون تحت حكم الطاغية او قبله. انما صرنا مسؤولين عن انفسنا ونحاسب حكومتنا وقضائنا ونوابنا وفسادنا وتجربتنا بانفسنا. وانتقلنا بفضل هذه المظاهرات الساحرة الملهمة من مرحلة الطفولة والتخبط الى عنفوان الرشد والشباب.

 

فلاول مرة منذ 9 نيسان 2003 لم يعد احد في العراق يتخذ شماعة صدام او بعبع البعث لتهديد او اسكات خصومه السياسيين او لتبرير سرقات طبقته الحاكمة او لتثبيط همم المنتفضين والمتظاهرين على سوء الخدمات وترهل الحكم وفشله وفساده. ولم يعد احد يتعلل ويتحجج بان عهد صدام هو الذي زرع بذور الفساد واننا نحصد مازرع حينها كما تعود المبررون. ولاول مرة نحدد اخطائنا بانفسنا ونعترف جميعا بها ولا ننسبها لحروب الطاغية ولا لتاثير سنوات الحصار ولاحتى للمؤامرات الامريكية والايرانية والسعودية والقطرية والاسرائيلية علينا. ولاول مرة منذ سقوط الصنم بل ومنذ ولد هذا البلد عادت الكلمات والمصطلحات لمعانيها المدنية الوطنية الاصلية. فلم يعد التظاهر يعني معاداة العملية السياسية ولا الثورة تعني الانقلاب والمؤامرة ولا الانتفاضة تعني الغوغائية والهمجية ولا الاصلاح يعني الانقياد والانبطاح للسلطة ولا المدنية تعني الالحاد ولا نقد الدين والمتدينين هو التحلل ونوع من العمالة للغرب.

 

لا الاحتلال ولا الحرب الطائفية المجنونة ولا دكتاتورية المالكي ولا سقوط الموصل ولا سبايكر ولا داعش ولا عشرات الاف الضحايا الابرياء خلال السنين الماضية ولاسرقة مليارات الدولارات امام اعيننا ولا الفساد الفلكي والتخلف الذي ياكل البلد وابنائه امام انظارنا ولا انعدام الخدمات المزمن ولا فقدان الامن والمفخخات اليومية ايقظت عقولنا من السبات الذي كنا فيه حتى جاءت هذه المظاهرات السلمية الكاسحة لالاف معدودة من خيرة شبابنا والتي هزت فجأة كل ضمائرنا ومشاعرنا على حين غفلة فصحونا لننادي ونطالب وبقوة غير مسبوقة بمحاسبة كل الاخطاء وكل الفساد والمفسدين والفاشلين بصفقة واحدة غير قابلة للتاخير او التجزئة.

 

ويحسب كذلك لهذه المظاهرات انها حققت وتحقق اهدافها من دون اراقة قطرة دم واحدة حتى الان, وهذا مانتمنى ونرجو ان يستمر وان ننتبه له, ومن دون زعزعة مجهودنا الحربي. اذ اننا الان في حالة حرب مصيرية مع اقذر فئة بشرية عرفها التاريخ وعلى عدة جبهات. فكان شعار المتظاهرين الموجه لاخوتهم المقاتلين: تقاتل من اجلي اتظاهر من اجلك. اي اننا ندافع عن اطفالك كما تدافع انت عنا وعن وطننا. فتلاحم المتظاهر مع الجندي والشرطي لاشتراكهم بنفس الهدف. كما انها حازت على رضى كل الفئات لانها لم تتبنى اي شعارات طائفية او مذهبية او قومية ولم ترفع بها صور واعلام احد غير علم العراق الواحد. وبعد فترة الترقب والتخوف الاولى من هذه المظاهرات من الكرد والسنة نراهم الان مبتهجين ومهللين لها ككل عراقي اخر. ويحسب لها انها كذلك هزت كل فاسد وفاشل باي مستوى كان من مراكز السلطة والدولة من داخله حتى وان لم يحاكم ويحبس بعد وتصادر اموال السحت التي نهبها. وهو ماسيحصل قريبا اذا حافظت الجموع المتظاهرة على زخمها وهدوئها واصرارها على اهدافها المعقولة والمقبولة وان لايغتر البعض كثيرا ويتمادى بطلباته خارج الدستور والديمقراطية. الخوف من هذه المظاهرات ومن تبعاتها يحرم سراق البلد ورموز بلائه من النوم ومن طيب العيشة ولهذا نرى كل الكتل والاحزاب والهيئات التي جلبت لنا الخراب تتبنى هذه المظاهرات وتركب موجتها املا بان تفلت من العقوبة القادمة لهم لامحالة.

 

لو نجحت هذه الثورة الشعبية السلمية الاصلاحية العراقية الخالصة ولم يتم تسويف الطلبات والعهود وحزم الاصلاح الموعودة التي لم نلمس لها تطبيقا عمليا بعد, وان كنا لا نشكك بنجاحها الحتمي ولا بنوايا مطلقيها, سنهز العالم كله بنضوجنا ودورنا القيادي الالهامي التاريخي. فكل شعوب المنطقة في الدول المجاورة والاقليمية وحتى العالمية تراقبنا بصمت حتى الان وتتمنى لنا النجاح وان تتعلم منا كيف سنعيد بناء حضارة ومدنية وحكم عادل رشيد لتنضج هي ايضا تجاربها حتى وان كانت اكبر او اصغر سنا ادراكيا منا. وستخمد بلاشك كل النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية الذاتية والتقسيمية والعدوانية داخل كل المكونات العراقية. فمع نجاح الاصلاحات وتجذرها ومعاقبة كل الفاسدين لن يتبقى لداعش اي حاضنة ولا تاييد وسيتحقق الانتصار العسكري على داعش وفلولها باسرع واسهل الطرق واقلها نزفا للدم ولمعاناة النازحين والمهجرين وبتعاون دولي اكثر اخلاصا وجدية وتعاطفا وبمعنويات قتالية لجنودنا الابطال لايهزها اي تشكيك, ولن نسمع بعد اليوم الا ماندر اصوات الانفصال والاقلمة وما الى ذلك من احلام موهومة بالاصلاح والتقدم من خلال التفتيت. وكذلك ستخف النزعة والطقوس الدينية والانكفاء على الخرافة والماضي والحشود المليونية التي وجدت لها تنفيسا جديدا من خلال مظاهرات الاعمار والبناء والتقدم والمدنية الشبابية الشعبية. فبعد ضياع اكثر من 13 سنة في طفولة تائهة محتارة ها قد بلغ العراق اشده وقرر الانضمام لركب الرجال الرجال وعلى نفس القدر والهمة بلا بعابع ولا سعلوات ولا خرافات يخيفنا منها احد بعد اليوم.