بعد ما ألحقه الأجنبي والفاسدون من خراب بماكينة الدولة العراقية، أصبح إصلاحها مهمة شاقة لكل من يجازف ويتولى المهمة. فإصلاح البناء أصعب دائمًا من البناء. ولكن هذا ما قرر العبادي أن يتولاه في أحرج مرحلة من تاريخ الشعوب. لا أتصور مثيلاً لها غير ما مرت به ألمانيا بعد سقوط هتلر. على العبادي أن يحكم دون جيش ودون أجهزة أمن، ومن دون فلوس في الخزانة، ودون أنصار ودون كهرباء في شهر أغسطس (آب)، والشعب ينتظر المعجزات. ولكن العبادي هو الأمل الوحيد في الساحة. الطريق طويل للقسطنطينية. وعلى القافلة السير تحت حرارة تجاوزت الخمسين مئوية. بدأت المسيرة بالاحتجاجات على انقطاع الكهرباء. والمولدات عاطلة والمحولات معطوبة والأسلاك مقطعة والميزانية سُرقت. المسيرة مضنية والدرب طويل والقوة لا تعود بكبس زر على اللوحة. تتطلب إعادة الحياة للجهاز سنوات من العمل. وليس لحكومة العبادي ما تقدمه للشعب غير الصبر الجميل والجمهور يرد، ويقول: يا عطارين دلوني، الصبر أجيبه منين؟ المشكلة الأكبر من مشكلة الكهرباء والماء، مشكلة استئصال الفساد بكل ضروبه؛ من سرقة واختلاس ورشوة وابتزاز. وكلها أصبحت عادات مستحكمة، والعراقيون يقولون: العادة في البدن ما يغيرها غير الكفن. وعلى القافلة أن تسير وهي تواجه في كل مفازة هجمات قطاع الطرق: نعم، هم أنفسهم. الفاسدون وميليشياتهم وعصاباتهم وأحزابهم. وفي هذه المفازة يتحمل حزب الدعوة الإسلامي المسؤولية الكبرى. فهذا حزب تميز بين الأحزاب بخلوه من أي منهج اجتماعي أو اقتصادي عملي غير السعي لانتزاع الحكم من صدام حسين والاستئثار به، بما أدى لظهور شلة من القادة الفاسدين الذين لم يعنهم شيء غير الوصول للمنصب واقتسام ثروة البلاد، كما لو كانت «بوكة» حرامية يتقاسمونها فيما بينهم. دفعهم لذلك شعورهم بأن حزبهم قد أنجز مهمته بإجراء التغيير، ولم تبقَ له أي رسالة تذكر فانصرفوا للسرقات. وقبل أن تلتصق تهمة الفساد باسم هذا الحزب، عليه مهمة مسح هذه الصحيفة من تاريخه بدعم مشروع العبادي، وهو من رجالاتهم، في إعادة بناء دولة ذات كفاءة وعادلة ونظيفة. الساحة الآن مفتوحة. وبغير ذلك، الأولى بهم الانسحاب من ميدان السياسة. أجد مرة أخرى هذا الرجل يجرني إلى ما لاحظته مرارا في سياسات الشعوب النامية. كل من درس في الغرب يميل للإصلاح والديمقراطية والمجتمع المدني. والأمثلة كثيرة: سعد زغلول، بورقيبة، عبد الرحمن البزاز، فارس الخوري، فاضل الجمالي، والآن حيدر العبادي. والعكس بالعكس، كالمالكي وصدام حسين. ليس للطائفة أو الطائفية دور في هذه العملية. لقد صرح العبادي باستبعاد المحاصصة والانتمائية وأكد (وهو الدكتور في الهندسة) على الكفاءة والمقدرة. ولن يعبأ أحد من السنّة أو المكونات الأخرى من الشعب أن يكون المعمار القائم بإعادة البناء شيعيًا أو علمانيًا، ما دام تمسك بسيادة البلاد واستقلالها ووحدتها، ووظف ثرواتها لمصلحة الجميع وأمنهم وسعادتهم وحرياتهم المدنية.
|