لمدة ثلاثة عشر عاما ــ منذ العام 2003 ــ ومرجعية النجف تصدر فتاوى الدعم والتأييد والمساندة لرموز السلطة السياسية والحكومية في بغداد،تلك التي تحمِّلها – اليوم – مسؤولية ماحلَّ بالبلاد من فساد وخراب،لتقف الى جانب العبادي وكأنها تتنصل من مسؤوليتها عمّا بدر منها من مواقف تأييد لسياسات سلفه،داعية العبادي إلى أن يستجيب لمطالب المتظاهرين في تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين ومحاسبتهم على ماارتكبوه من انحرافات وتجاوزات وسرقات.
هذا التحول في موقف المرجعية الشيعية وعلى رأسها السيد علي السيستاني ألا يبدو غريبا ً ويدعونا لأن نطرح سؤالاً واحدا ًوحيداً يختصرما يجيش في النفس من حيرة ودهشة وغضب،يتخلص بالشكل الآتي: أليست ثلاثة عشر عاما مدة طويلة لكشف الفاسدين استطاعو فيها أن يتمددوا في كافة مفاصل الدولة والحياة وامسى لهم عصابات ومافيات لايقف امام جشعها ووحشيتها اي قوة في المجتمع بما فيها حتى المؤسسات الدينية ؟.
هذا التحول في موقف المرجعية كان من الممكن أن يكون أمراً طبيعياً فيما لو لم تكن فضائح الساسة والمسؤولين مكشوفة ولم يتناولها عديد من الكتاب وعشرات التقارير الصحفية ــ عراقية ودولية ــ مدعومة بالوثائق .
ومع ذلك فإن الوقائع على الارض كانت ومازالت تشهد بالأدلة التي لاتدع مجالا للشك تؤكد تورط معظم الساسة والمسؤولين بقضايا فساد.
فمدارس الطين التي يدرس فيها اطفال العراق في كثير من المدن مازالت قائمة،وهنالك احصائية كانت قد اعدتها وزارة التربية عام 2011 تشير الى وجود أكثر من 1000 مدرسة طينية في العراق !
وجود هذا العدد من المدارس المبنية من مادة الطين في بلد مثل العراق الغني بثرواته لأبد أن تكون لأي مراقب مُنصف دليلا كافيا على حجم الفساد المستشري في مفاصل الدولة منذ سقوط النظام السابق عام 2003.
أما فيما يتعلق بمجمل ماتم تخصيصه من اموال للميزانية العامة للدولة طيلة الاعوام الماضية وحتى العام 2015 فقد بلغت ترليون دولار ! .
هل يكفي أن نضع علامة تعجب واحدة امام هذا الرقم ؟ أمْ أن وضع العشرات من علامات التعجب بالكاد يكفي للتعبير عن حجم الكارثة التي حلت بالعراق؟ يلجمنا الصمت ونحن نعيد قراءة الرقم اكثر من مرة.
إن كل تقارير ديوان الرقابة المالية العراقية المنشورة منذ العام 2004وحتى آخر تقرير صدر في آذار 2013 تؤكد على “وجود مؤشرات كثيرة جدا على الفساد الإداري والمالي،سواء من حيث هدر المال العام أو تعيينات الموظفين “.وفي 10أيار 2013نشر التحالف الدولي ضد الفساد ــ الشفافية الدولية بحثا بعنوان “نظرة على الفساد ومحاربته في العراق جاء فيه ” بسبب أعمال الاختلاسات الكبيرة،وتهريب النفط،وغسل الأموال،والرشوة المنتشرة في الجهاز الإداري البيروقراطي، صُنِّف العراق كإحدى أكثر الدول فسادا في العالم.”.كما جاء في تقرير آخر صدر عام 2013 عن الأمم المتحدة “أن العراق لم يستطع من تقديم الخدمات الأساسية بشكل كفء، وحوالي 23% من العراقيين في فقر مدقع،وأن الاقتصاد العراقي،خارج قطاع النفط، يبقى ضعيفا،وغير قادر على خلق فرص عمل لقوى العمل النامية،أدت إلى وجود بطالة بمعدل 20%، وفي عام 2011وصلت حصة الفرد العراقي من الناتج المحلي الإجمالي،إلى المستوى الذي تم الوصول إليه عام 1980 “.وحسب ديوان الرقابة المالية لعام 2013 فإن أكثر من 40 مليار دولار يتم تهريبها سنويا خارج العراق” .
هذه الأرقام التي نشرتها جهات رسمية عراقية ودولية تشكل جزءا يسيرا من التقارير الدولية التي تناولت حقيقة الفساد في العراق خلال الاعوام الماضية والتي كان المالكي فيها رئيسا للوزراء لمدة تزيد عن ثمانية اعوام.
السؤال هنا:أين كانت المرجعية من هذه التقارير،ألم تسمع بها،ألم تقرأها،ألم تطلع عليها ؟ فإذا كان الجواب بالنفي،فهذا يعني أنها ليست على تماس مباشر مع مايجري من احداث في العراق،وبذلك تكون مؤهلة حتى تصدر فتوى تتعلق بالشان السياسي العام.
وإذا ماكانت قد سمعت أو قرأت أو اطلعت.لماذا إذن لم تطالب باجراء تحقيق ؟ لماذا لم ترغم المالكي على أن يكشف اسماء الفاسدين ؟
وعلى العكس من ذلك كنّا نجد دعما كبيرا لسياسات المالكي ولم يحدث خلال فترة حكمه ما يشير إلى ان المرجعية ليست راضية عنه وعن سياساته وعن طاقمه الذي يدير شؤون الدولة.!
هذا المناخ الذي خلقته مواقف المرجعية جعل المالكي يشعر بقوّته،وعلى أنه يحظى بثقتها،وهذا ما دفعه إلى أن يعلن عن نيته بالترشح لولاية ثالثة قبل ان تنتهي ولايته الثانية ،إلاَّ أنّ حالة السخط الشعبي الكبيرة التي قوبل بها والتي تم التعبير عنها خلال مظاهرات 25 شباط 2011 التي كانت قد شهدتها العاصمة بغداد ــ والتي قوبلت بعنف شديد من قبل اجهزة الامن ـــ هي التي أعادت وضع صورة حكم المالكي على حقيقتها أمام المرجعية وليس كما كان يروج طاقمه الاعلامي وفي المقدمة منه قناة العراقية المملوكة للدولة والتي انتهجت طيلة فترة حكمه نهجا قائما على تزييف الحقائق والقفز فوقها.
أزاء ما فرضته تلك التظاهرات من ضغط شعبي على الحكومة،ماكان أمام مرجعية النجف من خيار إلاّ أن تلتزم الصمت ولاتعلن تأييدها لترشيح المالكي لولاية ثالثة،وكان ذلك سببا جوهريا لكي يفقد الكثير من الدعم داخل الوسط الشيعي فما كان منه إلاّ أن يتراجع عن نيته بالترشح ويخلي الطريق مرغما لسلفه حيدر العبادي .
بنفس الوقت فإن المرجعية لم يصدر عنها بعد انتهاء ولاية المالكي اية ملاحظات تشير الى ما كانت عليه فترة حكمه ــ وهذا ماينبغي أن يكون عليه الحال ـــ وما أفرزته من مشكلات معقدة في كافة مجالات الحياة ابرزها خواء ميزانية الدولة العراقية بشكل تام،مع غياب اية مشاريع حقيقية تم تنفيذها على الارض،هذا اضافة الى ضياع نصف اراض العراق وسقوطها تحت سلطة دولة الخلافة وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين عراقي من مدنهم وبيوتهم .
معلوم لدى المطلعين ان اليابان بعد الحرب العالمية الثانية خرجت حطاما،لكنها اعادت بناء نفسها خلال خمسة اعوام.وسنغافورة ايضا تحولت خلال عشرة اعوام من بلد يرقد في اسفل قائمة الدول الاكثر فقرا وعجزا في قدراتها الاقتصادية الى أن تكون في مقدمة الدول المزدهرة .
لم ينتظر اليابانيون فتوى من رجال الدين لكي يؤمنوا بأن سرقة المال العام حرام،وان محاسبة المسؤولين تقتضي الانتظار ثلاثة عشر عاما لكي يتم التأكد من فسادهم ونهبهم لخزينة الدولة ولثروات البلاد وتدميرهم لمستقبل العديد من الاجيال،ومسؤوليتهم عن ضياع نصف اراض الوطن. ولاالسنغافوريون كانوا بحاجة الى ان ينتظروا فتوى من المراجع الدينية حتى يسعوا لأجل الخروج من قائمة الدول الفقيرة.
بناء الاوطان لايحتاج الى فتاوى دينية،بقدر مايحتاج الى ارادة سياسية مُخلِصة تدفع من يتولى ادارة شؤون البلاد للعمل دون أن ينتظر المباركة من اي سلطة غير سلطة الشعب وماعدا ذلك لايملك الشرعية في تقرير ماهو صالح وماهو غير صالح للوطن والناس.
رجال الدين ستبقى مكانتهم محفوظة ومصانة مثل اي مواطن آخر في دولة يسودها القانون،ولهم الحق في أن يدلوا بأرائهم ومواقفهم وقناعاتهم في تقرير مستقبل البلاد حالهم كحال بقية المواطنين ولاشيء يميزهم عنهم بما في ذلك وظيفتهم باعتبارهم رجال الدين.
وفق هذا السياق القائم على العدالة لن تكون قناعاتهم بكل الحالات مقدسة وملزمة ويتوجب الأخذ بها.انما يتم التفاعل والتعامل معها وفق ما تحمله من صواب في الرؤية والمعالجة للموضوع .
ان ادارة الدولة لاتحتاج الى رجال دين بقدر ماتحتاج الى سياسين وعلماء ومفكرين واداريين وتكنوقراط،يملكون المعرفة الواقعية والعلمية لكشف مواطن الخلل في ميادين الحياة،ويملكون القدرة على ان يضعوا الخطط لتجاوزها،بينما رجل الدين وانطلاقا من محدودية المعرفة التي يحوز عليها والتي لاتخرج عن
نطاق العلوم الشرعية والفقهية فلن يكون قادرا على امتلاك الرؤية التي تؤهله لادارة ملفات البلاد الاجتماعية والثقافية والصحية والاقتصادية والبيئية والسياسية الخ .
ماكان لمرجعية النجف ان تضع نفسها في مثل هذا الموضع،فقد استثمر السياسيون الفاسدون خاصة أولئك المحسوبين عليها طائفيا،فتاواها ابشع استثمار،بالتالي لتحسب عليها الاخطاء التي ارتكبت،لانها وفّرت لهم الغطاء الشرعي – دون أن تقصد – حتى يرتكبوا ماارتكبوه من مفاسد بحق الناس والوطن والدين.
وهاهم اليوم لايترددون ــ ورغم أفتضاح امرهم ـــ الاستناد مرة أخرى الى المرجعية في ادعائهم الوقوف الى جانب اصلاحات العبادي في محاربة الفساد،ليستثمروا ماصدر عنها من فتاوى داعية الى محاربة الفساد والمفسدين لكي يبدأوا شوطا جديدا من اللعب،قد يستمر من عمر الوطن قبل الانتفاض عليهم مرة اخرى أكثر من ثلاثة عشر عاما أخرى .