دور النظام الانتخابي في صياغة النموذج الديمقراطي في العراق

 

توطئة :
كان لأفكار جان جاك روسو وآدم سميث وجون لوك الأثر الكبير في التحريض على الثورة ضد الاستبداد والدكتاتورية والحكم المطلق للملكية سواء في بريطانيا أم في فرنسا كما كانت المعين الأساسي لمقالات الآباء المؤسسين للنموذج الأمريكي كجان جاي وألكسندر هملتون وجيمس ماديسون ، ولكن لم يرد في خلد أحد من هؤلاء الكتّاب أن أفكارهم حول الديمقراطية والمساواة والحرية لا يمكن أن يكون لها مصداق دقيق وقابل للتطبيق على الأرض وفقاً للمفاهيم الفلسفية التي استقوها من الفلاسفة الإغريق، في أي من النماذج الديمقراطية، ولو أعيدت لهم الحياة اليوم لأعادوا ما كتبوا بشكل أكثر واقعية ينسجم ومتطلبات الحياة للمجتمعات المختلفة وفقاً لخصوصياتها المحلية واحتياجاتها، إذ بات واضحاً أن مفهوم الديمقراطية المباشرة لا يمكن تطبيقه عملياً، على الرغم من أن الكتاب والباحثين والمختصين في حقول النظم السياسية لا يزالون يفردون لهذا المفهوم فصلاً للحديث عن تاريخ تلك الديمقراطية وأساليبها، ولقلَّ حماس جان جاك روسو لتلك الديمقراطية باعتبارها الصورة الوحيدة لتحقيق الإرادة الشعبية التي انطلق من خلالها لانتقاد الديمقراطية النيابية في بريطانيا  ، حيث حمل على حكومة إنكلترا التي تقوم على أساسها بقوله أن (نواب الشعب ليسوا ولا يمكن أن يكونوا ممثلين لهم، فهم مجرد مندوبين عنه، وليس بمقدورهم أن يبتوا نهائياً في أي شيء، يظن الشعب الإنكليزي أنه حر، ولكنه واهم في ظنه، فهو ليس حراً إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان، وبعد انتهاء الانتخابات يعود الشعب عبداً لا حول له ولا قوة، وقد جنى بذلك نتيجة سوء استعماله لحريته في اللحظات التي كانت فيه ملك يمينه) .(1)
وتعتبر الديمقراطية المباشرة النموذج المثالي للحكم غير الواقعي الذي يستند تاريخياً إلى المدن الإغريقية القديمة،  خاصة مدينة أثينا، حيث كان المواطنون الأحرار يجتمعون في ساحة عامة لوضع القوانين واختيار الحكام والقضاة وعقد المعاهدات وتسيير الشؤون العامة للمدينة، على أننا شخصياً لا نستطيع أن نقطع بصحته تاريخياً لاعتبارات كثيرة ،أهمها عدم معرفتنا -على وجه الدقة -عدد سكان تلك المدينة ولا آليات عمل تلك الجمعية العمومية أو من يدعوها للاجتماع أو كيفية تنفيذ مقرراتها ، وأموراً أخرى كثيرة لم يبحثها منظرو النظم السياسية بالشرح والتفصيل.
لذلك لم يعد من الأهمية بمكان دراسة هذا النموذج من الديمقراطية، فإن النموذج الشائع الآن من الديمقراطية هو شبه المباشرة التي يختار الشعب فيها مندوبين عنه في المجالس التمثيلية من خلال الآلية الأكثر انتشاراً الآن في العالم وهي الانتخاب، إلا أن هذه الديمقراطية بدورها تخضع لكثير من التدابير التي تفرضها طبيعة واحتياجات المجتمعات المختلفة، مما أدى إلى تطور المفهوم التقليدي للديمقراطية وفقاً لتلك الاحتياجات والتدابير، ولقد اصطدم الآباء المؤسسون للنموذج الأمريكي الذين طالما تغنوا بالمفاهيم الأولية للديمقراطية والحرية والمساواة بضرورة إحداث نوع من التوازن بين الحرية والنظام وبين الإرادة الشعبية ومنطق الواقع، حيث قال (جان جاي) في إحدى مقالاته (نريد نوعاً من الحكم يتفق وحالنا وعاداتنا، وهي حال- فيما أعلم -لا تتفق اتفاقاً تاماً مع المثل الديمقراطية الصرفة)(2) 
وكتب هاملتن لصديقه جان جاي عن مزالق الديمقراطية المتطرفة المعزولة عن النظام، يقول "هذه أيام علينا أن نحاذر فيها التطرف المقيت، فالنفوس هائجة ثائرة، وصلت في ذلك حداً لم تصله من قبل، إن الجماهير لا تملك المنطق ولا المعرفة لتقاوم الطغيان والظلم حين يستشريان، وهي حين تستسلم لأهوائها الجامحة تحتقر السلطان وتنساه في غمرة الهذيان" .(3)
ومن هنا بدأ نقاش الآباء المؤسسين للاتحاد الأمريكي عن شكل الديمقراطية التي يرتضون لبلادهم خاصة في ما يتعلق بطبيعة المشروع الاتحادي ومدى تأثيره على الدويلات المكونة له والخوف من أن ينتزع جزءاً من سيادة وسلطة تلك الدويلات، فانقسموا بين ائتلافيين (حماة السيادة المحلية) معادين لفكرة الاتحاد المطلق، وفريق مناصر لذلك الاتحاد بقوة عرف في ما بعد بالقوميين(4)  ،إلى أن انتهى هذا النزاع برجحان كفة الفريق الثاني، إلا أن هذه المخاوف انعكست بشكل كبير على دستور الاتحاد الذي تم الاتفاق عليه عام 1787م ،إذ حددت فيه صلاحيات الحكومة الاتحادية وعلى وجه الحصر، بمعنى أن كل ما سيستحدث من صلاحيات ستكون من اختصاصات الولايات (الدويلات)، وبذا وضعت ملامح أول أنموذج فيدرالي في العالم وأول دستور مدون، أما الجدل الآخر الذي لم يقلّ حدة عن سابقه فهو ما يتعلق باختيار الرئيس الذي سيجتمع لديه قدر كبير من السلطة والهيمنة على دويلات اعتادت أن تدير نفسها باستقلال تام مع اختلافات كبيرة في آلية وطريقة إدارة الأمور في كل دويلة من تلك الدويلات الثلاث عشرة ،إلى أن انتهى النقاش والجدل إلى اختيار طريقة هي الأغرب لانتخاب رئيس الدولة .(5)
وأخذ بعضهم على الدستور أنه لم ينص على مذهب الرئيس خوفاً منهم على البروتستانتية أن تضعف، حيث كانت مذهب الأغلبية (6)، علماً أن الرؤساء الأمريكيين الذين تم انتخابهم في ما بعد كانوا بروتستانت عدا (جون كيندي) الذي اغتيل عام 1963.
إن السعي للحفاظ على الروابط الوحدوية في المجتمعات المنقسمة خاصة في ظل النظم الفيدرالية قد أدى إلى تطور كبير لمفهوم الديمقراطية التمثيلية وآلياتها، إذ تظهر التدابير التشريعية في تلك النماذج سعيها لتحقيق الاستقرار السياسي أكثر من تحقيق الإرادة الشعبية والمفهوم التقليدي لتلك الديمقراطية إذ أن مصطلح المشاركة في صنع القرار السياسي يضع الوحدات الصغيرة المكونة للاتحاد الفيدرالي في درجة مساوية إلى حد كبير في صنع القرارات والتشريعات الفيدرالية، وبإمكاننا أن نفهم هذا التطور المفاهيمي بالاطلاع على النموذج الديمقراطي السويسري، فعلى الرغم من التفاوت الكبير بين الوحدات المكونة لذلك للاتحاد الفيدرالي ،إذ أن كانتونا مثل بيرن، وهي العاصمة السويسرية، يضم أكثر من مليون نسمة بينما لا يزيد عدد السكان في كانتون آخر على العشرين ألف نسمة، والدستور السويسري ينص على ضرورة استحصال التشريعات الاتحادية على الأغلبية المركبة، أي أغلبية الشعب السويسري من جهة وأغلبية الكانتونات من جهة أخرى، أي موافقة (14) كانتوناً من أصل (26) كانتوناً المكونة للاتحاد السويسري.
وكذلك نص الدستور الأمريكي على أن أي تعديل للدستور يجب أن يحظى بموافقة ثلاثة أرباع الهيئات التشريعية للولايات (الدويلات) الأمريكية، وذلك على خلفية نشوء الاتحاد الأمريكي الذي نشأ عن اتحاد عدد من الدويلات المستقلة، بل إن التسمية الرسمية للاتحاد الأمريكي هو (الدول الأمريكية المتحدة) (United States of America)، رغم ما جرى على اللسان العربي من تسميتها بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو خطأ شائع غلب الصواب.
ويعزى هذا التطور في مفهوم الديمقراطية إلى حرص الوحدات المكونة وخاصة الصغيرة منها على ما تبقى من السيادة الداخلية التي تتمتع بها وعدم المس بتلك السيادة من خلال التشريعات الاتحادية، والأمر لا يقتصر على الصلاحيات أو مفهوم السيادة الداخلية بل يتعداه إلى احترام الثقافة المحلية (بكل مفرداتها) التي تمثل جوهر الخصوصية للوحدات المكونة، ويمكن إيجاز ذلك بالمبدأ الذي قام عليه الاتحاد السويسري (الحق في أن تكون مختلفاً من جهة، والحق في أن تكون متساوياً من جهة أخرى)(7) ، والذي يجسّم عادة بصورة ميزان متساوي الكفتين تحمل إحداهما فيلاً، بينما تحمل الكفة الأخرى فأراً.


1-الدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله، النظم السياسية أسس التنظيم السياسي، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، 1984، ص202.

2-(كان جان جاي الرئيس الأول للمحكمة العليا في الولايات المتحدة، وقبل ذلك كان أحد المفاوضين في مفاوضات السلم بعد الثورة، وقد وقع مع إنكلترا معاهدة جاي سنة 1794، التي طالبت الإنكليز بالجلاء عن قواعدهم في الولايات المتحدة، وحلت بعض القضايا التجارية بين إنكلترا وأمريكا.) هاملتن ومادسن وجاي، الدولة الاتحادية أسسها ودستورها، ترجمة جمال محمد أحمد، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت، لبنان، 1959، ص10 .

3-المصدر نفسه، ص28.

4-ومن أهم هؤلاء القوميين (جورج واشنطن، ألكساندر هاملتون، جيمس ماديسون) المصدر نفسه،ص34.

5-حيث يتم اختيار الرئيس لا عن طريق التصويت الشعبي مباشرة للمرشحين للرئاسة وإنما يدلي الناخبون بأصواتهم إلى أشخاص يدعون بالناخبين الكبار (الكلية الناخبة) تختلف أعدادهم من ولاية إلى أخرى ووضعت معايير لاختيار هؤلاء الناخبين الكبار، ولكن هيمنة الحزبين الكبيرين (الجمهوري والديمقراطي) على الكونغرس والرئاسة والمصالح الكبرى في الدولة الأمريكية جعلت هؤلاء المندوبين إما أن يكونوا ديمقراطيين أو جمهوريين، وهم بدورهم يقترعون لاختيار الرئيس، وقد يختلف الناخبون الكبار في اختيارهم للرئيس مع الإرادة الشعبية المنصرفة لاختيار شخص آخر، وهذا ما حصل أربع مرات في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وكان خامسها هو ما حدث في الانتخابات الأخيرة التي جرت 
عام 2012 التي أدت إلى فوز (أوباما) بولاية ثانية، للمزيد عن هذا الموضوع راجع كتابنا (تأثير النظم الانتخابية في النظام السياسي، دراسة مقارنة بالتجربة العراقية) ص34 – 35.

6-هاملتن ومادسن وجاي، الدولة الاتحادية/ أسسها ودستورها ، مصدر سابق، ص41.

7-القاضي قاسم العبودي، الثابت والمتحول في النظام الفدرالي، مطبعة الحاج هاشم، أربيل، العراق، ص14-15.