سورة البقرة من الآية 30 إلى الآية 33

قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين... قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم... قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
الآيات آنفة الذكر تبين المرحلة البدائية لخلق الإنسان وتهيئته لعمارة الأرض إضافة إلى تعليم الله تعالى إياه الأسماء وما ظهر من عجز الملائكة عن الوصول إلى معرفتها وهذه المرحلة تُعد من المراحل العظيمة التي تحتاج إلى تفهم أوسع لتفاصيلها دون المرور العابر على مجريات أحداثها، وذلك لأنها تمثل المفهوم العام للدور الكبير الملقى على عاتق الإنسان والذي أطلق عليه القرآن الكريم مصطلح الخلافة، ولهذا فقد أخرج الحق سبحانه هذه الفكرة المتضمنة للحوار الدائر بينه وبين الملائكة وما فيه من الأسرار من القوة إلى الفعل، باعتبار أن خلافة الأرض وتعميرها قد يعطي الأولوية لهذا الكائن الذي فضله الحق سبحانه وجعله على رأس المخلوقات الأخرى شريطة الإيفاء بالعهد المتفرع على مجموعة من المصاديق أهمها الإقرار بوحدانية الله تعالى، وعند تحليل هذه الظاهرة نصل إلى نتيجة مهمة يتضح على ضوئها أن ما حدث في الملإ الأعلى لا يقتصر على شخص آدم وإن كان هو الرمز المقدم في بناء الفكرة المتضمنة للحوار وإنما يمتد ليشمل النوع الإنساني، وهذا الحوار يمكن أن يؤخذ على حقيقته المشار إليها في سياق الآيات، أو أن نستنبط حقيقة أخرى يتضح على أثرها أن الله تعالى قد جعل من ذلك الموقف أمراً يتقارب مع إعمال الجهد الفكري، لكي يصل الإنسان إلى أسرار بعيدة عن التفاصيل المبينة في الآيات التي تتحدث عن الواقعة، وبطبيعة الحال إذا سلمنا بصحة الوجه الثاني لا يمكن أن نصل إلى البيان كما هو مفصل في الوجه الأول، وبهذه الحالة نحتاج إلى فهم الصورة من جانب آخر.

فإن قيل: إذا اعتمدنا الوجه الثاني نكون قد خرجنا عن منطوق الآيات وكذا مفهومها فكيف الجمع؟ أقول: متابعة القواعد القرآنية في التأويل لا تخرج عن المفهوم العام للقرآن الكريم وذلك لوجود التماثل الذي لا يقبل اللبس في جميع مواضعه، وعند دراسة التطابق الذي يربط بين تلك المواضع سيكون الوجه الثاني أظهر بياناً وأكثر تقبلاً لدى المتلقي، دون نسبة ذلك التأويل إلى باطن القرآن أو إلى التفسير الإشاري أو أي وجه لا يتقارب مع القواعد القرآنية، وعند الأخذ بهذه الطريقة سوف نصل إلى تحليل يمهد لنا فهم الآيات المرتبطة في خلق السماوات والأرض، ثم بعد ذلك نقوم بعرضها على موضوع الخلافة، وبعد هذه المرحلة نحصل على المطابقات الضرورية التي تبين حقيقة الخلق وتسرد تفاصيلها على أتم وجه، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين... وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين... ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 9- 11. وكذا قوله: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب 72.

وبالإضافة إلى ما قدمنا فهناك الكثير من الصور التقريبية التي يريد القرآن الكريم أن يضع الإنسان أمامها من أجل الإلمام بالفكرة التي ترشده إلى مسؤولياته وتبين له المهمة الملقاة على عاتقه، وبطبيعة الحال فإن الإنسان لا يمكن أن يحيط بهذه الأفكار لو لا أن الله تعالى قد أطلعه عليها دون الأجزاء الخافية التي لا شأن له فيها باعتبارها خارجة عن أسباب خلقه وعن المؤهلات التي تربطه بدوره في هذه الأرض، وهذا ما

أشار إليه سبحانه بقوله: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً) الكهف 51. وكذا قوله: (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون) ص 69.

وبناءً على اعتمادنا لهذا الوجه يظهر أن الحوار الذي دار بين الحق سبحانه وبين الملائكة ما هو إلا مثالاً يقرر الطبيعة الأولية لفهم المراد من البيانات القرآنية التي تحتاج إلى ما يقربها إلى الأذهان، ولهذا أنزلها الله تعالى منزلة المثال الحسي دون الإشارة إلى التفاصيل الأخرى التي جرى على أثرها الحوار المشار إليه، وفي كلتا الحالتين تكون المفاهيم الغامضة قد وصلت إلى المتلقي وجعلته على يقين من فهم الحكمة من خلافة الإنسان في الأرض من جهة، ومن جهة ثانية بينت له أن هذه الظاهرة على الرغم من تفريقها بين أبعاد القضية الخافية إلا أنها تثير مسألة غاية في الدقة وهي أن نظرة الملائكة كانت مقتصرة على توجه الإنسان إما إلى الطاعة وإما إلى العصيان، وهذا ما جعلهم يبدون موقفهم من التسبيح والتقديس الذي أشار إليهما القرآن الكريم باعتبارهما مانعاً يحول بين تقبلهم للأمر وبين خلافة الإنسان في الأرض، ولذلك جاء الرد مناسباً إلى اعتقادهم الذي وقفوا عنده، كما في قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30.

من هنا يظهر أن الله تعالى قد بيّن لهم الفرق بين نظرتهم البعيدة عن فهم مجريات الأحداث وما يتصل بها من تفاصيل خلق الإنسان الأول، وبين الكيفية التي تُبيّن التزامهم بظاهر الأمور دون الدخول إلى باطنها، باعتبار أن النظام الكوني الذي جعل الله تعالى له مجموعة من القوانين لا يمكن أن يستقيم فيه الاختبار وما يتفرع عليه من استحقاق إلا بوجود الحق والباطل جنباً إلى جنب، مما يفضي إلى ظهور الخير والشر وكذا الطاعة والعصيان وما إلى ذلك، وهذه الاختلافات قد يتعيّن على أثرها الدور الكبير في التمحيص، وإظهار ما ينشأ منها على الوجه الذي أراده الحق سبحانه، وهذا ما يُستشف من قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين... إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هود 118- 119. وبناءً على ما تقدم تتضح الصورة التي تقارن بين خلق الإنسان وبين الاعتراض وإن شئت فقل الاستفسار الصادر من الملائكة، وعند الجمع بين الحالتين تظهر الخلاصة التي ينتج منها مدى التلازم بين إقرار الملائكة واعترافهم وذلك بعد عجزهم عن معرفة الأسماء، وبين إعطاء الدور الريادي للأنسان بعد مرحلة اجتياز الاختبار.

فإن قيل: ما هي الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم والتي لم يصل الملائكة إلى التعرف عليها؟ أقول: الأسماء التي علمها الله تعالى للإنسان متمثلاً بآدم هي أوليات العلوم التي ألهمها إياه وجعلها في فطرته بطريقة تكوينية، ولهذا جعل النتائج مترتبة عليها باعتبار أن أي نوع من العلوم لا يمكن الإحاطة به ما لم تكن له أوليات ترشد أصحاب الاختصاص للوصول إلى نتائجه، وبالتالي ترتبط تلك النتائج بالمقدمات مما يجعل للتشعبات أثراً في إرجاعها إلى أصلها عند التحليل المتفرع على الأسماء، وفي هذا دليل على أن ما عرض على آدم لا يخرج عن نتائج العلوم دون أولياتها التي عرضت كذلك على الملائكة، وإلا لم يكن هناك تفاضلاً للإنسان في حال تعليمه الأسماء دون الملائكة، ومن هنا حصل على التفاضل بعد أن عجز الملائكة عن معرفة النتائج، وأما تعليم الأسماء فقد كان مفهوماً بالضرورة لكلا الطرفين فتأمل.

فإن قيل: إذا كان التعليم يختص بأوليات العلوم ألا يتعارض هذا المعنى مع الآية التي تنسب الكلية للأسماء؟ أقول: تطلق الكلية ويراد منها الجزئية في كثير من الآيات، إضافة إلى أن تقييد الكليات يرتبط بالقرائن التي يشير إليها السياق، بدليل قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون

ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) الأعراف 156. وهذا يدل على أن رحمته تعالى قد وسعت كل شيء إلا أنها سوف تقتصر على الذين يتقون والذين صرح بصفاتهم بعد الإبهام، وعند وصول جميع الناس لتلك الصفات فالكلام يؤخذ على بابه، أما في حال عجز القسم الأكبر منهم عن شروط التقوى فإن الكلية يجب أن لا تفهم على إطلاقها.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن