الهدامة بعد معاول التهديم

 

لا ندري حتى الآن من ذا الذي أطلق على قرية (الهدامة) هذا الاسم المأساوي, ولا ندري منذ متى رزحت تحت معاول التهديم والخراب, بيد أن الثابت لدينا أنها كانت حتى وقت قريب هدفا للغارات الصاروخية, والقذائف الغبية, لقربها من خنادق القتال في معارك شرق دجلة, ولوقوعها عند خطوط التماس الساخنة لأشرس المعارك والمواجهات الحربية التي زلزلت الأرض تحت أقدام القرى الواقعة بين البصرة وميسان, ابتداءً من (الصريفة), وانتهاءً بمدينة سيدنا (العزير) عليه السلام, مروراً بقرى (صخيريجة), و(الخيسات), و(العلوة), و(أبو عران), و(النخيلات), و(حريبة), و(بيت عباد), و(بيت سلمان), و(بيت معيجل), و(بيت عوفي), و(بيت غزيل), و(حُميّان), و(السيب), و(الحارّة), و(الدميغ), و(السفحة), و(الكبيبة), و(همايون), و(الروطة), و(الحالة), و(النجيرة), و(جهنم), و(الهدامة) التي تقع ضمن مجموعة القرى المسحوقة. . ربما اكتسبت قرية (الهدامة) اسمها من سنة (الهدامة), وهي سنة الكوارث الطبيعية القاسية, التي تهدمت فيها أكواخ وبيوت قرى البصرة في الهارثة والزبير والفاو وأبي الخصيب, وانهارت على ساكنيها بفعل الأمطار الغزيرة, التي اجتاحتها في تلك السنة, حيث انهمرت الأمطار على البصرة وضواحيها بكثافة غير متوقعة, فاندفعت السيول العنيفة في اليوم السابع من شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1934, في غرة رمضان من العام الهجري 1353, فانهارت سقوف البيوت وتهدمت جدرانها, وغرقت الحقول والبساتين, ووجد الناس أنفسهم بين ليلة وضحاه في العراء بلا مأوى, وبلا ملاذ, وبلا مصدر للعيش. . (الهدامة) قرية بائسة من قرى البصرة, تقع شمالي القرنة في منتصف المسافة بين الحدود الإيرانية ونهر (العز), كانت زيارتي الأخيرة لها قبل بضعة أيام بصحبة الشيخ صبري بن صدام بن شبيب البيضاني, والشيخ جمعة بن حصموت, والشيخ صدام بن راضي (من بيت داود), والحاج محمد أمين البيضاني, فوجدتها لم تتخلص بعد من آثار معاول الهدم والتهديم, ولم تتخلص أيضا من أساليبها البدائية في التنوع البيئي الموروث بين الاتكال في العيش على الزراعة وتربية الحيوانات, وبين صيد الطيور والأسماك النهرية, وهكذا سارت في خطوط متوازية ومتقاربة مع الفقر والتخلف, فلم تستنشق شذى الحضارة والتحضر, ولم تتحسن ظروفها حتى يومنا هذا, على الرغم من الوعود المتكررة بانتشالها من أوضاعها المزرية, وعلى الرغم من تطلعاتها المشروعة نحو الارتقاء إلى مصاف القرى العصرية في هذا الفردوس الجميل المحروم من ثرواته النفطية, التي شفطتها أبراج حقول (مجنون). . كان لقاؤنا الأول في مضيف الشيخ فارس بن سلمان البخيتاوي من (بيت صقر), بحضور الشيخ موسى بن حسين (من بيت غزيل), ثم انتقلنا إلى مسجد الشيخ قطان بن حسن الكباشي (من بيت صقر), وهو من وجهاء القرية وحكمائها, فاستقبلنا وأولاده على الطريقة العربية التقليدية, واظهروا لنا كرم الضيافة التي اشتهرت بها ضواحي البصرة وميسان, وكان معنا اثنان من رجال الدين من فئة الشباب الملتزم بأصول الشريعة, وهم الشيخ ياسين بن كاظم المحمداوي, والشيخ حميد بن قطان المحمداوي. . . تتوزع قبائل البو محمد في الرقعة الجغرافية المحصورة بين جسر الجوابر في محافظة البصرة, وتتمدد بالطول والعرض باتجاه نهر (العز) حتى حدود (المجر) في محافظة ميسان, في مساحة زراعية شاسعة تقطنها عشائر البوبخيت, وبيت نصر الله, والعمشان, والبيضان, والنوافل, والبو علي. . ثم انتقلنا كلنا إلى مضيف (بيت غوينم) فتمحورت أحاديثنا عن المشاكل المستعصية التي ظلت تواجهها هذه المنطقة, التي كانت حتى وقت قريب مسرحا للعمليات العسكرية الساخنة, وساحة مفتوحة لمعارك الدبابات الطاحنة, وحقلا عشوائيا من حقول الألغام الخبيثة المضادة للأشخاص. . ظلت المنطقة حتى يومنا هذا تعاني من شحة مياه السقي وانعدام مياه الشرب, وتعاني من سوء تسويق المحاصيل الزراعية, وعدم توفر الدعم والرعاية الصحية والزراعية والاجتماعية. . تعيش (الهدامة) حالة مزرية من التخلف بين أحضان العزلة المفروضة عليها منذ ولادتها في رحم الأهوار, فما أحوجها اليوم لبرامج الحد من الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي, وذلك من خلال توفير الخدمات الأساسية كالصحة والتربية والكهرباء والماء الصالح للشرب, والقضاء على السكن غير اللائق, ومحاربة الأمية, وتطوير الشبكة الطرقية. . لقد تبين لنا بالملموس إن المشاريع الترقيعية لم تجد نفعا في ظل البرامج الارتجالية غير المدروسة, وفي ظل المشاريع التي ينفرد بها المقاولون الفاسدون, فتتحطم آمال سكان القرية على أنقاض مستوصف متهرئ من دون معدات أو طاقم طبي, ومن دون كادر رفيع المستوى, أو على أنقاض مدرسة من القصب والبردي, أو أنابيب تالفة, أو طريق مهجور بسبب كثرة المطبات والتشققات, ويتجلى هذا الواقع المر في احتداد التخلف البنيوي, الذي تعيشه قرية (الهدامة). . ختاما نقول: ان مؤشرات التخلف في هذه القرية المنسية تتلخص بارتفاع نسب الأمية والجهل, والدخل الفردي الهزيل, والفقر المدقع, وأوضاع المرأة التي تفوق درجة التحمل, والنقص المهول في البنيات التحتية والخدمات الأساسية, والعزلة والتهميش, والهجرة القروية المتفاقمة في ظل تفشي ظاهرة (الحواسم) والتجاوزات المتكررة على الأراضي في مركز مدينة البصرة, بانتظار من يتصدى لتعميق المطالب الاجتماعية, التي يناضل من أجلها سكان القرية كالتعليم والصحة والماء والكهرباء والطرق والنقل والاتصال, والمحافظة على الثروات البيئية والمحلية, وتوفير شروط الرفاهية من دور للثقافة والرياضة, وتوفير الحد الأدنى من الخدمات الإدارية على أقل تقدير. .