كنت في بغداد في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات |
بالرغم من إنها حروبا عبثية فاشلة، وخاسرة، إلا أنها رغم شراستها وعدم تكافؤ أطرافها، لم تحول بيننا وبين بغداد التي احتلت مرتع القلب لها مكانا، لذا فلقد التصقنا بها بالرغم مما أصابها من نكبات وويلات، وكان أنينها مسموع عندنا، بالرغم من وقوعها تحت نير ووطأة الظلم، والتجبر، ومتفجرات الحاقدين، فيبعث فينا ( الأنين ) مشاعر بذلك الحجم من اللوعة المقابلة، والأسى الحزين، والمرارة التي تنتابنا بالقدر الذي كانت فيه قنابر المهاجمين تعصف بكل ما في بغداد، من بشر، وطير، وشجر، وطرق وجسور، وبنية تحتية تخدم المجتمع، فيدفن من يدفن، ويعاق مدى الحياة آخرون، ويختفي من الساحة كثيرون ليبوب كل شيء تحت عنوان ( الخطأ غير المقصود )، وهي تسمية لا تختلف عن تسمية (شهيد ساعة الغضب) التي كان النظام البائد يتستر بها أذا ما فكر في تحسين سمعته . لقد قتر العراقيون على أنفسهم، من أجل أن تكون لهم بنية تحتية مناسبة، وأن لم تكن على مستوى الطموح، وقد تكون حجة لهم لكبح تيار الغضب الجامح، الذي ينتابهم بين الفينة والأخرى، لأن ما بين أيديهم اقل من استحقاقهم بكثير، ولكن لا بديل عنه عندما تزامن وتعيش مع ظالما . لقد تحول حلم بعث حضارة ترتبط بسابقاتها من حضارات سومر وأشور وبابل وما بينهما من صروح ثقافية وقانونية وإبداع متوهج أصبحت بذرة خير في التأريخ الإنساني المشرق إلى مجرد أوهام، تتعارض مع جاءت به الموجات التترية، والمغولية، والخزرية، التي كان لاهم لها غير هدم ما يبني العلماء، والمتميزين، والمهندسين مما يبهر ويبقى خالدا حتى وأن تراكم عليه غبار السنيين. المهم أن بغداد كانت تخوي من أهلها تقريبا عند كل حرب حمقاء، يسببها لها هدام العراق وخاصة عندما يصل إلى مسامع الكبار والصغار، سقوط سقوف المنازل على رؤوس ساكنيها نتيجة الغارات الجوية وغيرها، فتهلع النساء ويصرخ الصغار والكبار لهذه الأخبار المريعة ناهيك عن أن هناك رجالا هم أكثر رهافة قلب من نسائهم، فيتسارع الجميع إلى حزم أمتعتهم والتوجه نحو المجهول، طلبا للعافية وهم يتسابقون مع الإشاعات، التي ثبت لاحقا صحتها بأن صدام أعطى أوامر خائبة بنسف وتدمير الجسور وقطع الطرق، كصفحة من صفحات الحرب الخاسرة، علما أن أغلب الموكلين بهذه المهمة لم ينفذوا هذه الأوامر لسذاجتها بالنسبة لظروف العراق والحروب غير المتكافئة . أما نظريتي الخاصة ومن خلال خبرتي العسكرية في الجيش الذي طردت منه سنة 89 لإعدام الكثير من أقاربي بحجة وتهمة معارضة النظام، إن هذه الخبرة أعطتني تجربة ثبت لاحقا نفعها عمليا، وتتلخص : في أن البقاء في الدار يعد أفضل الحلول في هذه الحالات، مع الحذر والمتابعة، وعند الوصول إلى النقطة الحرجة التي تتضح فيها الرؤيا وتحديد اتجاه الخطر عندها يتخذ القرار المناسب . لا أريد أن أتحدث عن حرب ال45 يوما سنة1991 التي لم أغادر بغداد أثنائها أيضا ولكن أود أن أذكر شيئا واحدا فقط، هو أنني تمكنت من قراءة كتاب تأريخ الطبري عن الرسل والملوك بأجزائه الأحد عشر في تلك الأيام . أعاد التأريخ نفسه وتكرر ذلك عام 2003 حيث طبقت النظرية ذاتها وانشغلت بالقراءة، رغم قسوة القصف، ما عدا الأيام الأربعة الأخيرة عندما وصل القصف العنيف الذي استخدمت فيه قنابل ثقيلة جدا، على أبواب حينا وأخذت الدار تهتز، وخصوصا الأبواب والشبابيك، لوجود بطرية صواريخ قريبة منا لا تبعد أكثر من ثلاثمائة متر، فتغير حال الأطفال وامتنعوا عن الأكل، لأن الخوف غلب على الجوع، والرعب على الطمأنينة، التي كانوا يكسبونها من عدم مبالاتي وانشغالي بالقراءة، ولم يهزهم حتى ذلك الوقت خلوا المنطقة من ساكنيها، ماعدا النزر القليل الصامد، فأصبح البقاء نوعا من أنواع الجنون، عندها قررت المغادرة وثبت صحة توقعي، إذ أن دارنا تعرضت للقصف بعد حوالي 14 ساعة من ضمنها ظلام الليل الدامس، وكان مجموع ما سقط فيها أربعة عشر قنبلة عنقودية، أدت إلى ألحاق أضرار كبيرة في الدار وخصوصا زجاج الشبابيك والنوافذ، الذي تحطم باتجاه داخل الغرف، الذي كان سيصيب حتما أي كائن متواجد في الدار، حيث عثرت على قطة نافقه في سطح المنزل عند عودتي إليه، وأستشهد احد جيراننا الطيبين ( أبو أركان رحمه الله) وولدين له، عندما رفع من الأرض قنبلة عنقودية لم تنفجر وعندما حركها قتلته والصبيين . لقد حول قصف الأسبوعين الماضيين العراق عموما، وبغداد خصوصا، إلى ركام وخراب منظم، ودمرت أهداف لاعلاقة لها بالجهد العسكري، كما أن عمليات الإنزال المتعددة والكثيرة التي قامت بها القوات الأمريكية على امتداد الساحة العراقية، جعلت صدام مرتبك وغير قادر على تحديد خط الهجوم الرئيسي، حتى قبل يومين من سقوط بغداد، حيث ذكر الضابط المسئول عن العمليات في القاطع الأوسط، أن صدام أقتنع في اليومين الأخيرين من الحرب بناءا على مشورة بعض قادته المزايدين، والمنافقين، أن الوجهة الرئيسية للهجوم ستكون عن طريق الأنبار والفلوجة، ثم المطار فالقصور الرئاسية، وطلب ما هو مستحيل في تلك الساعات الحرجة، وأصدر أوامر ركيكة ومستحيلة التطبيق، ومنها المباشرة بزرع الألغام في طريق القطعات المتقدمة من هناك، وهذا دليل على انعدام الرؤيا العسكرية الصحيحة لدى القائد الضرورة ( وهي تسمية جاءت من أحد الأخوة الكورد كما ذكر لي ذلك واحدا منهم )، وأن قصي المشرف على الحرس الجمهوري كان مجرد ألعوبة بأيدي بعض الضباط، فكان يصدر أوامر مرتجلة ويحرك القطعات والفرق العسكرية من مواقعها المحصنة لمسافات بعيدة، مما جعلها صيدا سهلا للطائرات الأمريكية، فأدى كل ذلك إلى تسرب الكثير من الضباط والجنود بعد أن تيقنوا بضعف نظام القبضة الحديدية وانهياره الواضح، الذي أخذ يطرق بوابات الحدود العراقية . ابتدأت الحرب مثلما يعرف الجميع، عند فجر يوم 20/ شباط / 2003 الموافق 17/ محرم /1424 وبعد انتهاء الإنذار الذي وجهه بوش لصدام بمغادرة العراق وولديه خلال 48 ساعة حيث سمعت فجر هذا اليوم دوي أنفجارين هائلين، أعقبهما أطلاق نار لم يكن على تلك الدرجة من الكثافة، ودوت بعدها صفارات الإنذار وتبين أن الهدف المقصود كان مزارع الدورة التي كان حينا من الأحياء القريبة منها، كان المذيع ( خالد مشعل) مراسل إذاعة سوا الأمريكية ينقل تقريرا لتلك المحطة فأنقطع صوته فجأة وبالتزامن مع الانفجارين، لقد كانت تلك المزارع من محرمات مصفى الدورة، ولكن صدام أصدر أمرا بتوزيعها إلى كل من علي حسن المجيد وحسين كامل وساجدة طلفاح ورغد وعدي وقصي وطارق عزيز وعدد أخر من المقربين وعلى امتداد المسافة بين جسري الجادرية ومعسكر الرشيد سابقا . لقد جافاني النوم ليلة الهجوم بسبب الأخبار العالمية المتعاقبة، التي تركز على شيئا واحدا أسمه ( الحرب ) وبعد نشوبها بنصف ساعة أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش بداية الهجوم على العراق وخاطب قواته قائلا : ( أقول لرجالنا ونساءنا في القوات المسلحة أن السلام في عالم مضطرب وشعب مسحوق < يقصد الشعب العراقي > هو بين أيديكم الآن.......) ؟؟ . وأخذت وسائل الإعلام تنقل لنا عبر الأثير خبر تقدم القوات الأمريكية والبريطانية من الأراضي الكويتية، عن طريق البر وشبه جزيرة الفاو . أستمر نهار ذلك اليوم هادئا تقريبا في بغداد حتى المساء، عندها فتحت أبواب الجحيم، فأخذت الحرائق ودخانها تتصاعد من أنحاء متفرقة من بغداد، مع دوي أصوات المدافع والراجمات وغيرها من الأسلحة التي لاطائل منها لا ينقطع في سمائها، وأستمر الحال حتى نهاية الحرب، وكنت أصعد على سطح المنزل لمشاهدة مكان الأنفجارات، وهذا شيئا خطأ طبعا (كانت زوجتي تعترض عليه) لان بغداد كانت بمثابة ساحة قتال بين سلاح الجو الأمريكي وملحقاته، والدفاعات الجوية المنتشرة في كل منطقة وشارع ومدرسة بالعاصمة تقريبا، فلا وجود لغير أصوات الانفجارات، وعندما أقترب الخطر كثيرا من دارنا ومع انهيار معنويات الأطفال اضطررت لمغادرة البيت كما ذكرت سابقا . أن تحصن القطعات واحدا من المميزات التي تتمتع بها القوات المدافعة ( وهذا ما أثبته أحد الألوية المدافعة عن ميناء أم قصر ) وهو ما افتقرت إليه القوات العراقية رويدا، فضلا عن عدم إيمان الجيش العراقي بالقيادة المتكبرة الموجودة، مع عوامل أخرى ساهمت بانهيار النظام وأقول النظام، لأن صدام قام بتوزيع قياداته السياسية المدنية الحزبية التي لا تفقه من العلم العسكري شيئا داخل صفوف الجيش، مما اثر على عمله من ناحية، كما أن القادة العسكريين اعتبروهم بمثابة جواسيس عليهم من ناحية أخرى . كانت الخطة الأمريكية تتلخص بالالتفاف حول المدن، التي كان صدام يراهن على القتال فيها، فجاءت النتائج عكسية وتحطمت معنويات الجنود، الذين كانت تصلهم أخبار وصول القوات المهاجمة إلى مواقع خلف مواقعهم، بفضل الإمكانات الهائلة لسلاح الهندسة الأمريكي الذي كان يوفر للقطعات القتالية طرقا أمنة في صحراء مترامية، ناهيك عن تفوق بالجو بنسبة 100%. كانت أقوى وأكثف قوة نارية سمعتها على الأرض طيلة فترة الحرب، هي ليلتي 4 / 4/ وفجر يوم 5 /4 / 2003 ففي الأولى والتي هدد فيها الصحاف بتلقين الأمريكان درسا، تلك الليلة نصب الدفاع الجوي على عجل منصات صواريخ مستفيدا من ظلام الليل، في ساحة لا تبعد أكثر من مائة متر عن دارنا، وأطلق منها خمسة عشر صاروخا باتجاه المطار في الساعة الثانية فجرا تقريبا، وكنت أسمع عملية تعشيق الصاروخ وتشغيله، وعندما ينطلق بصوته المرعب لقربه كنت أتوقع واحدة من أثنين، أما سقوطه على رؤوسنا، أو انه سيقلع في طريقه شيئا من سياج سطح الدار، واضطررت إلى جمع الأولاد في غرفة واحدة لتهدئة روعهم، وبعد الانتهاء من القصف هربت العجلات التي كانت تحمل المنصات على عجل، أما الحالة الثانية فكانت تلك الكثافة النارية التي أستخدمها الأمريكان وهم يمشطون جانبي طريق مدخل بغداد الجنوبي حيث تركت الجثث طعما للكلاب، وقام الأهالي المتواجدين في المنطقة بحفر حفر ودفنهم مع وضع شارات دلالة عليهم . هذا غيض من فيض مما دونت عن حرب التسعة عشر يوما، أما طريق الذهاب من بغداد إلى بعقوبة الذي أستغرق أربع ساعات، فحدث ولا حرج ومنظر الناس المذعورين المتوجهين نحو المجهول فيه، يحكي لنا ألف قصة وقصة، وهذه نتيجة الخروج على المثل القائل : اليد التي لا تستطيع أن تلويها ... !!!!!! .
|