غبت عن قبرص نحو ربع قرن. عندما جئتها أوائل الثمانينات كان يُكتب جدول الرحلات في مطار لارنكا على لوح أسود. ثم طوِّر قليلاً. وعندما وصلته ليل أمس بدا جزءًا من مطار فرانكفورت الذي أقلعت منه. أو مطار لندن. وبدت طرقاتها مثل طرقات بريطانيا. أو أفضل. وطالعت صحفها فوجدت أن الحكومة تسعى لتحسين أحوال المزارعين من خلال منحهم الأراضي اللازمة، وفتح أسواق الصين وروسيا أمام تصدير البطيخ. ترتفع أمام حديقة الفندق في ليماسول لوحة لا أعرف سببها، كُتب عليها: لبنان على بعد 120 ميلاً من هنا. لكن أخبار لبنان توحي أنه يبعد مليون ميل حضاري عن هذه الجزيرة التي لم تكن على خريطة أحد قبل أربعة عقود. يومها كان يسمى «سويسرا الشرق» لتحضُّره وجماله وتقدّمه، والآن يحلم لو يكون شيئا من قبرص: في نظافتها وفي طرقاتها وفي استقرارها. لكن على بعد 120 ميلاً من هنا بلد غارق في القمامة والفوضى والفساد وسوء السلوك وسوء النوايا وسوء الخلق. وقد اختصر الرئيس تمام سلام الصورة بالقول: إن معضلة البلد ليست في النفايات العضوية بل «النفايات السياسية». هي التي تؤدي إلى تدهور لبنان منذ إقحامه في حروب لا نهايات لها. أقحمه أهله، وأقحمه الأشقاء، وأقحمه الغرباء، وأقحمه الأعداء، وجميعا دون حياء. ولم يعد يعرف الفارق بين كيف كان وكيف أصبح. وعودوه كل شيء. أن يُنتخب رئيسه في الخارج، وأن ينسى نفسه بلا رئيس، وأن يعيش بلا حكومة، وأن يبقى في كل الحالات ذليلاً مهددًا ومهانًا ومرتعبًا. يُمنَّن لبنان كل يوم بأنه لم يُضم بعد إلى مستوى الانحدار الذي يضرب سوريا والعراق وليبيا. لا يمنَّ عليه أحد بالتساؤل أين كانت قبرص يوم عرضت شركة مارسيل داسو أن تقيم عنده مصنعًا لتجميع طائراتها. لا يذكره أحد بأن قراء الـ«صنداي تايمز» انتخبوا شركة طيرانه بأنها «الأفضل في أوروبا». صار بلدًا أقصى طموحاته أن يعثر على مكان يطمر فيه قمامته. فات الأوان. الذي تغيَّر هو اللبنانيون. لم يعودوا يعرفون الفرق بين يوم كانوا حافظين اللغة ويوم أصبح بينهم من هم من أهل السفه والفجاجة والابتذال. لم يعودوا يلاحظون أن الاعتراض على القمامة لا يكون بوسخ التعبير ووسخ السلوك. استوت الأشياء في لبنان وأدخل فيما هو أسوأ من الحروب. أدخل في تبلّد الذوق والأدب والتمييز بين الحدود الدنيا من مظاهر وأصول السلوك البشري. مؤسف هذا النوع من التسونامي. «نفايات سياسية» يسميها تمام سلام، أحد الشهود - والشركاء - على لبنان الذي مضى.
|