محمد الحمراني وفراشات ميسان ...!

آخر لقاء لي مع الراحل الشاعر والروائي الميساني الجميل محمد نعيم الحمراني كان في ملتقى المدى الثقافي في اربيل عام 2005. وبعدها افترقنا لنودع ما لدينا من ذكريات في ذمة الزمن والتحيات الالكترونية المتبادلة عبر بريد الياهو .الى يوم خبر سقوط نيزك الدمعة المؤلمة على رأسي عند سماعي خبر موته الفاجع في وقتٍ مبكر من صباح يوم الاثنين 2007/11/27.

مات محمد الحمراني الذي ذاع صيته الادبي مع روايته الجميلة ( أنفي يطلق الفراشات ) والذي أرخت لحماس الشاعر وموهبته واعطته الرؤية الجديدة في تغير مسار موهبته من الشعر الى الحكاية وكان هذا الميساني المدهش من الذين يعيشون لحظة المكان وسحر بيئته وليوثق بجماله وحماسه الكثير من مفاصل الحياة في ذلك الجنوب الذي كنا نتحدث عنه في اشتياق الرؤيا المشتركة ومقاربتها .

هو السومري الحالم بشعرية التناص بين ماكان هناك وما يكون هنا ليسجل برقته وعذوبة روحه وقلمه حياة المكان ويوميات الشخوص الذين احبهم ، واغلبهم من فقراء قرى الاهوار وبسطاء المدينة واولئك الذين ابقت الفطرة لديهم سحر التقاليد وتلقائية العيش ، وكل هذه الاشتغالات صنعت للحياة الادبية القصيرة للمبدع الراحل المرحوم محمد الحمراني مكاناً مهما في الادب العراقي الشاب ولتكرمه دار الواح في اسبانيا وتتبني طبع روايته الاولى عام 2002 تكريما منها لادب محنة الداخل ولهذة الموهبة الجنوبية الواعدة التي اشتغلت بصبر وحماس وهي التي ادمنت على صناعة احلامها في هوس الشعر اولا ثم ذهبت لتعقد صفقة مع الفراشات لتبدأ طيرانها من الأنف الذي تعود أن يشم صباحات غابات القصب والماء وتلك المساحات الغارقة بالامل والجوع والثورة والحنين والاساطير كما جسدها هو في روايته الهروب الى اليابسة.

أتخيل ملامحمهُ وسمرتهُ الفاتنة ومرايا الابتسامات التي تتشظى تحت اجفانه في دعابة الاستراحة من نقاشات منتديات الادب ، تلك الامكنة التي كانت تجمعنا من أجل أن نستعيد شتات الذاكرة والامنيات والتواصل مع ما نريد أن نبقيه في جعبتنا لنقتات به من اجل صناعة النص الشعري وحكاية الفنتازيا التي يؤسطرها الحماس والرغبة والانتماء الى العطر الذي صنع روائح ارغفة خبز الحياة وحروف الكتابة والجنوب الذي ادمنا على عشقه كما تدمن الالهة على الوقوع بغرام عذراى مدن اور وميسان ولارسا وقلعة صالح.

من هناك اتانا محمد الحمراني وعاش معنا برهة الزمن القصير شاعراً وروائياً وصحفياً . واتخيل لقاءنا الاخير وهو يقرأ لي نصه القصصي الذي انجزهُ للتو ( حمار في سجن بوكا ) ، وكانت مرارة جرأة القص لديه تمثل شجاعة المحارب السومري في البحث عن الحياة الجديدة والحرية بعد أن تغير كل شيء وصار بمقدورنا أن نكتبَ بأعلى اصواتنا وأن نبدأ ازمنة اخرى في المقاومة لنكون ونذهب الى ذات الاقدار التي صنعت مجدَ دويلات الجنوب.

من هناك أتانا محمد الحمراني والى هناك ذهب بعد أن عجز اطباء مستشفى البصرة أن يجدوا شفاءً لألم أحشاءه فيغمض عينيه والى الابد تصاحبهُ رجفة الاشتياق الى كل مدن الضوء والغرام والطفولة وليترك اطفاله في ذمة ما تركَ من رواياتٍ وكتب شعر ورسائل غرام قديمة كتبها أيام العصور السومرية ــ الميسانية الأولى ....!