ما أروع من نعجب بهن من ملكات الجمال وغانيات الملاهي وراقصات الباليه! نفتتن برشاقة أجسامهن ولدونة أطرافهن وسحر عيونهن وبراعة حركاتهن وما على وجوههن من تعبير ناطق وجمال بليغ. تنهي دورها وتنزل من المسرح كالفراشة فتدعوها لمشاركتك بما على طاولتك من شراب وطعام. تحدثها وتحاورها فإذا بك تكتشف مدى جهلها وسخف أفكارها وركاكة لغتها وسقم تفكيرها. فتعجب من أمرك ومن أمرها. وتأسف على ما أخذته من زادك وشرابك ووقتك. خطر لي كل ذلك وأنا جالس في حديقة بيتي، في هذا الموسم من مواسم لندن، موسم الفراشات. رحت أتابع حركاتهن، يتطايرن بين غصون التفاح وباقات الورد وأشجار الهولي والكونفر كراقصات الباليه تمامًا. تضرب بجناحيها البيضاوين وتنط في الهواء، تصعد لأعالي الشجر ثم تهبط مسرعة كالصاروخ نحو العشب ولا تمسه بل تدور يمينًا ثم شمالاً وتعود وتقفز فتجتاز السور وتزور حديقة جارنا. دقيقة واحدة، وإذا بها أمام عيني ثانية. وكذا الأمر لدقائق طويلة حتى يمسها التعب فتحط على غصن نبتة ميتة. تستريح قليلاً وتنشر جناحيها وتنطلق لتعيد الكرة. لم أرها تأكل شيئًا أو تشرب قطرة من الماء. كل هذا التعب واللف والدوران من دون طائل حتى خطر لي أنها كانت تفعل كل ذلك لمجرد تسليتي وإيناسي كما تفعل راقصة الباليه. ولكنها لم تتقاضَ مني أي أجر. كله صدقة ومحبة من معشر الفراشات إلى معشر بني آدم. كلا. لا تعبأ الفراشات بمسرتنا كما تفعل القطط والكلاب والحكومات النزيهة العادلة. كلا. الحقيقة هي أن الفراشات حشرات غبية. جميلة مثل راقصات الباليه ولكن غبية. تضرب بجناحيها وتطير هنا وهناك، تنط وتحط وتتمطط من دون سبب ودون غرض. تمامًا مثل «داعش» وكل الإرهابيين. بيد أن الفراشات لا تقتل، والإرهابيون يقتلون، والفراشات جميلة والإرهابيون قبيحون. وعلى هذا السياق، يمكن أن نسترسل فنجد أن هذه الظاهرة، المظهر على نقيض المعدن، تنطبق على الكثير من ساستنا وخطبائنا وكل هؤلاء الذين يقدمونهم لنا على شاشات الفضائيات كمحلل سياسي عالمي، تعجب بهم وأنت تسمع كيف يتشدقون بأحلى العبارات ويتمنطقون بكل الادعاءات، وأحيانًا في سجع جميل وتضمين من أروع أبيات الشعر الجاهلي والحداثي. ينطون ويحطون ويتمططون من فكرة بليغة إلى فكرة رهيبة. يزيدون عليك ويطمئنونك بتوقعاتهم وما سيحدث ويتم واتفقت عليه الدول، صغراها وكبراها. تنام رغيدًا وتستفيق فتجد أن كل ما حدث جرى خلافًا لما تقوَّلوا به. وكل ما تفوَّهوا به من وعود وتوقعات كان هراء وكذبًا وغشًا مدفوعًا عنه. تعجب من هذا السجل من الغباء والسذاجة، أقصد بها غباءنا وسذاجتنا، نحن الجمهور البريء، في الاستماع لهم والإعجاب بلغوهم ولغتهم
|