بالرغم من عدم وجود احصائات دقيقة في العراق , ولكن الاعداد المتوقعة للمهاجرين العراقيين تتجاوز المليوني نسمة منهم خلال السنوات التي اعقبت العنف الطائفي في العراق ,اي خلال عقد من الزمان, وبالرغم من احتلال داعش لمحافظات سنية , الا ان هنالك كتل بشرية شيعية من الوسط والجنوب قد شدت رحالها خلال العامين المنصرمين نحو الخارج بسبب سوء الخدمات وفشل ودكتاتورية احزاب الاسلام السياسي وفصائله المسلحة , والتبعيات المشبوهة التي جعلتهم يرددون عن ثقة عبارات من قبيل (العراق مبيوع ).
وغصت تركيا ومصر ولبنان وغيرها باعداد هائلة من العوائل والافراد من هؤلاء , واختار عشرات الالوف منهم التدفق بهجرة غير شرعية الى اوروبا برغم المخاطر الهائلة , لاسيما وان هنالك قناعات لديهم ان الهجرة واللجوء الشرعي عبر الامم المتحدة او عبر منظمة الهجرة الدولية (IOM)صعبة ومعقدة , وتكون فيها فرصة من هم من المحافظات الغربية ذات الغالبية السنية , ومن هم من الاقليات الدينية اكبر .
فلايزال , لدى المنظمات الدولية عموما , تصور خاطيء مبني على ان الشيعي العراقي هو الافضل عيشا والاكثر امانا في ظل حكومات شيعية واحزاب شيعية وميليشيات شيعية وتدخلات اقليمية شيعية , ونادرا مايقتنعون ان هذه الاوعية الشيعية الحاكمة والمتنفذة تكون اكثر شراسة على ابناء جلدتها حين تبدر منهم معارضة لنفوذها , وان الفساد لادين ولامذهب له .
كما ان طابور الانتظار للهجرة الشرعية عبر المنظمات الدولية , في احسن الاحوال , هو طابور كبير يمتد لسنوات , بل لعقود , (حتى ان مفوضية اللاجئين في مصر على سبيل المثال مسجل لديها 200000 لاجيء من السوريين والعراقيين والافارقة , كلهم يطالبون بتسفيرهم الى دول اللجوء , فيما لاتتعدى امكانيتها السنوية الا بارسال 2000 منهم فقط , اي ان هنالك عائلة ما , ستحتاج الى مئة عام كي يصل دورها بالسفر الشرعي !!!!وهذا يعود الى ضعف الامكانيات المتاحة للمفوضية وغياب الدعم العالمي لها .
كل هذه المعطيات ادت الى ان معظم العوائل والافراد العازبين من محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية , يفضلون الهجرة غير الشرعية برغم المخاطر , وزادت وتيرة الامر بشكل مخيف , حين ادت مناشدات (بل وتهديدات) اليونان وايطاليا لدول الشنغن بضرورة معاونتهما في استيعاب قرابة مليوني لاجيء سوري وعراقي , وتدفقاتهم المستمرة التي ستتجاوز احصاءآتها في خلال نهاية العام الحالي والعام المقبل , ارقام هائلة غير متوقعة , فكان ان سهلت النمسا وفلندا (والمانيا بالخصوص ) قبول اللاجئين العراقيين باعداد شبه مفتوحة .
ولايستطيع احد ان ينكر على جيل الشباب العراقيين بالذات , اللمحات الانسانية الرائعة التي وجدوها في تعامل الدول والشعوب معهم بشكل اذهلهم , فوجدوا دولا بلا مظاهر مسلحة ولا ميليشيات , وفيها بنى تحتية قمة في الرقي , وبساطة لدى المسؤولين , وانصاف وامان , بما يشبه جنة الله على الارض , الامر الذي أسقط طبيعة الحكم العراقي واحزابه وقواه المسلحة وخدماته , بالضربة القاضية عند اول مقارنة , ناهيك عن ردة الفعل العنيفة التي يطلقها زوال الكبت والخوف , الامر الذي جعل الكتل البشرية الشيعية المهاجرة تمقت اشد المقت كافة اشكال الاسلام السياسي الشيعي *
ولنا ان نضيف هنا العامل الاقتصادي المصاحب لتدهور اسعار البترول , الامر الذي لم يعد المواطن يأمن من انه حتى لو لم يكن عاطلا وكان موظفا فان الدولة ستعجز عن دفع مرتباته , بسبب الركود الاقتصادي وخواء خزينة الدولة , بل ان العامل الاقتصادي انعش الدول الصناعية الاوروبية وفي مقدمتها المانيا بسبب رخص الوقود .
نتج عن هذا كله ان هنالك تدفق عام عراقي (وشيعي خاص) هائل من اعمار الشباب على الهروب من الواقع العراقي , وان هذا التدفق مستمر , ولايوجد تصور (باي حال من الاحوال ) ان يتوقف او ينضب , لاسيما وان اخر المحاولات كانت في الصحوة الاصلاحية التي هبت لها القوى المدنية وبمساندة المرجعية الشيعية المعتدلة في النجف الاشرف, والتي كان لها لو نجحت ان تحد من شهوة الهجرة .
الا ان العصي الاسلامية الشيعية تنادت مبكرا (لتفليش) الحركة الاصلاحية على اعلى المستويات , (حتى ان البعض اعتبرها قد دخلت في صلب صراع المرجعيات الشيعية ), وجرت محاولات حمقاء لتشويه الاصلاحيين واتهامهم بالارتباط بجهات اجنبية , وان الصهيونية العالمية تحركهم , وان شعارات الاصلاح تسعى لهدم الدولة , وان هؤلاء شيوعيون ومجموعة من السكارى والمنحلّين والبعثيين , وان شعاراتهم تدعو للكفر والالحاد وضرب بيضة الاسلام (كذا!!!) , واشهروا بوجوه المتظاهرين السلميين الخطوط الحمراء , واختطف ناشطون واغتيل البعض منهم بحوادث اريد لها ان تكون غامضة , فكان ان اشتد الياس ليحل بدلا عن الامل بالتغيير , مما سرع في وتيرة اعداد الطوابير امام مكاتب الجوازات وشركات الخطوط الجوية .
الانكى من ذلك ان المهاجرين الذين هربوا من العراق (وبالاخص من ابناء الوسط والجنوب) اخذوا يصورون بلقطات فيديوية لاتخطؤها العين الفرق الهائل بين (الكفر) الكريم الحاني , و(الاسلام) السياسي المهين والسالب للحقوق , الامر الذي اشعل مواقع التواصل الاجتماعي والشارع العراقي , بسباب علني لكل الفاسدين الاسلاميين (الشيعة تحديدا), بل وصل الامر ان هنالك من ظن من السياسيين ان سمعته التي بناها خلال عام من قتال الدواعش , ستمنحه دون غيره مساحة حصينة تتيح له مساندة احد رموز الفساد , فاذا بالمواطنين والنشطاء يهاجمونه بشراسة دون ان تلجمهم تضحياته وقتاله للدواعش , فكان ان استشعر الباقون ان لاكبير ولاهيبة (لكائن من كان) لمن يحابي المفسدين .
ثم جاءت اخبار مؤلمة عن غرق عوائل عراقية في طريقها الى الخلاص , فصب الشارع العراقي جام غضبه على الاسلاميين الشيعة والاسلام السياسي وحتى الخطاب الديني , معتبرين ان دماء اولئك برقبة هؤلاء , الامر الذي استفز اسلاميي السلطة ليهاجموا المهاجرين ويتهمونهم بالتخاذل عن بناء الوطن (كذا!!!!) والجبن من الدفاع عنه امام ارهاب داعش , متناسين ان العراقي يشبه في حاله حال عنترة العبسي , فهو يدعى الى الموت والقتال والتضحية , لكنه يقصى في المغانم , ففي القتال يسمونه عنتر بن شداد , وفي الغنائم هو عبد واسمه ابن زبيبه!!!!!.
ووصل الامر الى تكفير من يذهب الى بلاد الكفر (!!!) واستصدار فتاوى دينية بهذا المعنى , متناسين ان من المثير للسخرية ان تتحدث بالدين مع مهاجر هارب ممن افسدوا حياته باسم الدين , ومتناسين ان المهاجر يحاول الان ان يعمل مايشبه غسيل معدة من كل ماافسدوا به عقله وقلبه وانسانيته, وبذلك تمت القطيعة الكاملة بين رموز الاسلام السياسي وبين من لجؤوا الى الدول الاوروبية .
واقولها للتاريخ , ان الاسلام السياسي الحاكم واقع في ورطة حقيقية , فهو من جهة يتمنى ان يخرج كل (الكفار العلمانيين) من العراق , ويخرج كل من لايرضخ له ويعارضه ليخلو له الجو السياسي ولكي تنهار الغضبة الجماهيرية الداعية للاصلاح , الا انه من جهة اخرى قد تنبه (لات حين ندم ) , الى ان كل من يخرج فانه سيفلت من قبضتهم ومن امكانية سيطرتهم على عقله , وستتشكل خلال السنوات القادمة كتل وتجمعات بشرية عراقية ضخمة جدا في اوروبا وامريكا , وستنبذ تلك الكتل البشرية الهائلة اخطر سلاحين ساهما في ضيمها واذلالها , وهما سلاحا الطائفية والاسلام السياسي .
فسيكتشف العراقيون المهاجرون انهم (بكل اطيافهم), متساوون في الحزن , وانهم ضحايا اكذوبة المذهبية الطائفية المقيتة , لذا سينبذونها , وسيجدون في مجتمعاتهم الجديدة مصاديق لتفاهة تلك الطروحات , وفي ذات الوقت فانهم سيكوّنون كتلة بشرية انتخابية تتحطم عليها احلام الاسلام السياسي ,
ففي عام 2018 سيكون هؤلاء بالملايين , وستضطر مفوضية الانتخابات الى تحديث سجلاتها , وانشاء مراكز مضاعفة لناخبي الخارج بشكل يتناسب مع اعدادهم التي تكون قد تضاعفت عشرات الاضعاف , وسيكون خيار هذه الكتلة الانتخابية لرموز مدنية لادينية , وستصاب الاحزاب السياسية بنكبة كبيرة , وسيتنادى رموز الاسلام السياسي الى الضغط بكافة الحجج كي تلغي المفوضية العليا للانتخابات انتخابات الخارج , من خلال تقليص ميزانيتها لتقليل مراكز التصويت في اوروبا , وسيسعون الى اعتبار عراقيي الخارج خونة لايحق لهم ان يقرروا مصير بلدهم بعد ان خذلوه (!!!) في معركة التحرير ضد ارهاب داعش , وسيدخلون الحشد الشعبي بقوة في لعبة الانتخابات , وهو مصداق احدهم الذي ابدى استعداده للتنازل عن كل شيء شريطة ان يكون القائد الرسمي للحشد الشعبي , كي يحضّره كورقة انتخابية مستقبلية قبالة اتهام البعض له باضاعة سيادة العراق
ان العراق في عام 2018 سيشهد تغييرا ديموغرافيا وجغرافيا سكانية في غير صالح الاحزاب الاسلامية الشيعية الفاشلة , وسيستطيع عراقيوا الخارج , ان يشكلوا قوة ضغط انتخابية كبيرة لاقبل لاحد بها , وسيؤثرون حتى على اهاليهم واقربائهم في العراق , وسيحاول البعض من رموز السلطة الحالية ان يزور اللاجئين (الذين سيكونوا قد استقروا وكملت اوراق لجوئهم) ليحاول استمالتهم , وبالطبع سيعود واثار اقدام اللاجئين على قفاه .
ان مااتحدث عنه ليس من قبيل الامنيات , لكنها معطيات تفرضها الارقام الهائلة المتصاعدة للهاربين من جحيم الاحزاب الاسلامية , لاسيما من اهالي وسط وجنوب العراق , ويفرضها واقع الفساد الاسود الخانق الذي عاشه ابناء الجنوب , والذي صار فيه حتى اللون الرمادي في اوروبا ابيضا ناصعا .
انها ورطة وخازوق لكل من وقف في وجه الاصلاح الذي طالب به المتظاهرون , وسيندم كل من وقف بوجه العراقيين , وكل من سعى لمساندة الفساد , ولعل اطرف مافي الكوميديا السوداء التي سيعيشها الفاسدون الذين سرقوا احلام العراقيين باسم الدين , هو انهم لن يستطيعوا حتى الهرب الى الدول التي آوتهم في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي , لانهم سيواجهون هناك في كل مدينة عراقيين تشردوا بسببهم , يشبعونهم بصاقا وسبابا , ونعم المصير !!!!.
========
*هامش :كما نبهنا احد المثقفين العراقيين , فان الانسانية الاوروبية لم تكن هي وحدها السبب في قبول تدفق اللاجئين , وانما شجعتها عوامل اقتصادية , فالمعهد الاقتصادي الالماني اشار في دراسة مؤخرا الى ان نمو الاقتصاد الالماني يحتاج الى نصف مليون يد عاملة في كافة المجالات سنويا , وهو امر خطير بالنسبة لالمانيا في ظل عزوف العائلة الالمانية خلال العقد الاخير عن الانجاب , مما يعني ان هنالك حاجة ماسة لدمج نصف مليون شاب في المحتمع الالماني سنويا لسد حاجة سوق الايدي العاملة , فكانت اللمحة الانسانية الاصيلة التي لاتنكر , والتي قواها الدافع الاقتصادي الالماني الساعي للحفاظ على معدلات النمو.
|