بين ازمير وياس خضر ( 1 )

كما هي الدنيا تحتضن بيديها من جاءها وليداً باكياً بعد أن لفظته ظلمات ثلاث ،  وهناك من هم بانتظاره تسعة أشهر أو ربما سنين ، يستقبلونه بفرح غامر وسعادة لاتوازيها سعاده ،  وكما نودّع من عاش معنا بعد ان اطبق الصمت على جوارحه ، ونحن نشيّعه  جثة هامدة بدموع تترك اثار حرقتها وألمها على جدران القلوب ، كذلك هي صالة المطار التي وطأتها قدميّ لأول مرة بعد أن تجاوزت العقد الرابع من عمري ، متطلعاً الى نهايات تشعرني بشئ من الطمأنينة والراحة . 
تدور  أشرطة بلاستيكية عريضة أمام جمع من المسافرين المحتشدين وهم ينتظرون لحظة الأنقضاض على  حقائب لهم ، كبيرة ومتوسطة الاحجام  تضم بداخلها عطور وفساتين وكتب وذكريات واشياء اخرى ، ترفعها أكفهم بفرحٍ مستبشرة بأيام قد تطول سعادتها حتى الساعات الاخيرة من العمر ، وهم يحتضنون وجوه وأجساد أعياها الانتظار القاتل .
بخطى ثقيلة كمن يحمل اثقالاً على كاهله ، تركت خلفي صالة المغادرة ، متوجهاً مع الاخرين الى الباص الذي يقلنا الى الطائرة التى بسطت جناحيها على ارض المدرج ، كنسر وثب على فريسته بعد ان غرز مخالبه في جسدها ، منتظراً لحظات لاستعادة انفاسه ، حتى يركل الأرض بكعب اقدامه ويحلق بعيداً وهو يبقر بطن السماء ، باحثاً عن مقر ومستقر ليهنأ بطعامه وشرابه ، شعرت وانا ارتقي سلّم الطائرة كم كنت صغيراً وهيناً ومبعثراً في داخل هذه الكتلة التي تحملني على ارض الوطن ، ماهي إلا لحظات حتى يغلق باب الطائرة ويجلسن المضيفات الجميلات اللائي يوزعن ابتساماتهن الرقيقة بالتساوي للمسافرين ، ويودعن في نفوس المنكسرين الطمأنينة والثقة المفقودة ، قد اكون الوحيد على متن هذه الطائرة الضخمة الذي يشعر بالخيبة والانكسار ، خيبات وانكسارات متوالية ورثتها عن ابائي واجدادي ، ولااملك مفاتيح سر وجودها وديمومتها ، تركت انكساراتي وخيباتي تتساقط عني وانا ارتقي سلّم الطائرة العملاقة ، يملأني الأمل بحياة  تحفظ ماتبقى للأنسان من كرامة . كعين نبع صاف يتدفق في داخلي صوت ياس خضر وهو يبضع بمشرطه بعناية وخفّة جراح محترف ، آثار ذكرى مؤلمة قد التئمت منذ سنين ، ( مسافرين .. وروحي يطويها الدرب غربه وملامه  ) ، يشدني الحنين الى مدينتي ، حين عدت من الديوانية هارباً عبر السياج من وحدتي العسكرية ، حيث لم أحصل على اجازة لمدة يوم او أثنين للاطمئنان على حالة والدي الصحية التي ساءت في الآونة الأخيرة ، ونقل على اثرها الى مشفى متخصص بأمراض القلب في بغداد ، وصلت الكراج الساعة الثالثة بعد الظهر ، كان الباص الأخير نوع سكانيا المتواجد في مكان السيارات المتوجهة الى بغداد ، انطلقت السيارة وقد اسدلنا ستائر النوافذ ، ودارت نسمات هواء المكيف  في تلك الظهيرة التي احرقت شمس تموز القائظ المدينة ومن فيها ، كنت استرق النظر من بين الستارتين على النافذة الى المساحات الشاسعة للاراضي الزراعية ، وصوت ياس خضر يملأ جوف الباص الممتلئ بالمسافرين ( مسافرين وعيني مشدوده لدربكم .. را يحين وااخ لو عندي گلبكم ) ، 
بدأ بعض ركاب الطائرة بفك احزمتهم والتحرك من اماكنهم ، بعدما اخرجت غازاتها ونفاياتها من مؤخرتها على جبين الوطن ، وهي تنظر اليه باستخفاف وكبرياء ، انها نظرة الاستخفاف التي رمقني بها عريف الانضباط ذو الشوارب الكثة في سيطرة الحله ، حين قلت له ( اني نازل مساعده ) ، والحّ علي بطلب نموذج الاجازة ، من أين آتي لك بالنموذج ، ياصاحب الشوارب المقدسة التي مرغٓتّها بالوحل  اهانات من هم اعلى منك درجة ورتبة ، انزٓلٓني بقوة من الباص ولم تنفع توسلات بعض  المسافرين الذين كانت لديهم بعض من شجاعة ، وطلب من السائق بالتحرك وعدم الكلام الزائد الذي لايجدي نفعاً ، كل اعذاري وقصة والدي المريض الذي قد يموت ان لم يكن قد مات ولم احضر وفاته لم تجدي مع هذا الوحش اي نفع ، طلب مني خمسون الف دينار مقابل اطلاق سراحي ، وانا لا املك اكثر من عشرة الآف ، كانت كفه التي نزلت على رأسي بعد ان حاول صفعي على خدي ودفعتها بيدي ، كحجر كبير تهاوى من قمة جبل واكتسح كل شئ في طريقه حتى كرامتي . ماذا تشرب ياسيدي هذا ماقالته المضيفة الجميلة ، التي تشبه الى حد كبيرعارضات الأزياء الفرنسيات ، سأشرب من يديك كل شئ فيه كرامة ايتها الجميلة ، قد لا احصل على فرصة كهذه ، واقتل ظمأي لجمال ساحر كجمالك ، وانا ارتشف من عينيك سحر الحياة وبهجهتها ، ربما لن احظى بمثل هذه الفرصة ،  من السهل جداً لواحد مثلي يرافقه حظه السيئ اينما حل أن يكون صيداً سهلاً ولذيذاً لاسماك البحر بين ازمير والجزيرة اليونانية ، الموت لايعني لي شيئاً كثيراً ، ليس هناك من عاش بالقرب من حتفه اكثر مني ، توسلته كثيراً أن ينقضّ عليّ ويقطع انفاسي ويجعل مني حراً ليس لاحد عليّ سلطان ، خصوصاً اولئك اولاد البغايا ، وهم يكيلون لي السباب واللكمات في السجن الذي انتقلت اليه بعد ان ارسلوني مخفوراً من سجن الانضباط العسكري في الحارثيه الى سجن معسكر الغزلاني في الموصل .