صانعو اللاعودة |
بأسلوبه الروائي ومعرفته بالشخصية الليبية ومكوّناتها عبر التاريخ، أعاد الفقيه كتابة غرابات المرحلة وظلاماتها وظلماتها الفاحشة والكرنفالية. لكنّ ثمة تطورًا رهيبًا حدث. إليك ما كتب قبل أيام:
«أقول، باعتباري شاهدًا على الأحداث وجزءًا من المحنة التي يعيشها المواطن الليبي، بأنني عشت على مدى السنوات التي سيطر فيها القذافي على الحكم، لا أطأ أرض البلاد إلا لأخرج منها باحثًا عن مساحة للشهيق والزفير، بسبب الأجواء الخانقة في البلاد، وزوابع الرمل التي يثيرها (رسول الصحراء). ولكن خيار العودة إلى بيتي في طرابلس كان خيارًا متاحًا دائمًا، أعود إلى البلاد متى أريد وأعود عنها متى أريد. ولكنني الآن وقد انتهى نظام القذافي الكريه، أجد نفسي، وللمرة الأولى، هاربًا من البلاد غير قادر على العودة إليها في ظل الأحزاب والخطف وغياب القانون. ألتصق بالأرض، أنصت إلى وقع أقدام الميليشيات متى أسمعها تغادر عاصمة البلاد كي أستطيع العودة إليها!». قرأت شهادات وجدانية كثيرة عن الحروب والفوضى واستبداد الجماعات والجماهير عندما تضربها أوبئة الخراب والدم. شهادة الروائي الليبي الأكثر تعبيرًا: إنسان يجد أن الأرض قد لوثت حتى لم يعد قادرًا على العودة إليها، وأن بيته قد سكنه الخوف حتى أصبح لا يريد العودة إليه. يأتي هذا الاعتراف من أحد عاشقي الشخصية الليبية ورسامي أعماقها وكفاحها الإنساني والسياسي. مثل كثيرين رأى المملكة التي بناها إدريس السنوسي على الورع والمساواة والقانون، يدمِّرها ملازم مليء بكل عُقَد الحقد والزهو. ومثلهم كان يأمل أن ليبيا السابقة سوف تعود إلى الدولة والقانون والتلاقي بين مناطقها الشاسعة. لكنها انحرفت فورًا وسريعًا نحو الخراب والتحلل. وساد فيها القتل والنهب. وكان القذافي قد تركها من دون جيش وأمن إلا جنون وفظاظة «اللجان». روى الدكتور محمود جبريل في بدايات الثورة أنهم طلبوا من إدارة أوباما تدريب بضعة آلاف جندي لضمان الأمن، لكن الطلب بقي بلا تلبية. كل يوم نسمع شيئًا من خبر عن ليبيا. حكومة أو مؤتمر أو وفاق أو اتفاق. أو شيء من طريق العودة إلى البيت والأرض. الليبيون هاربون على المراكب، يقول أحمد الفقيه. |