لا يُجنى من القتاد عنب ولا من العوسج تين |
غِبَ التاسع من نيسان 2003 ساد حقلَ السياسة وإدارة أمور الدولة العراقية والمجتمع ، تحت وطأة الإحتلال العدواني الغاشم، نبتاتُ العاقول والقتاد والدَغَل والعُلّيق والعوسج والشوكران السام وكثيرٌ من النبتات السامّة، وصنوف شتى من الأشواك الضارّة والمؤذية. فهل يُجنى من حقل كهذا حلو الثمر، وأطايب الفواكه، وجيّد الحاصلات؟! إنّه لحقلٌ موبوء بهذه الأغراس والنبتات الضارّة، الرديئة، بعضها متجذّر فطريًا وقِدمًا منذ عشرة قرون أو ينوف، لكنّ أغلبها نشأت من أغراس حديثة العهد بعد نكبة العراق الكارئية السوداء، وقد أُنبتت في غفلة من الزمن الرديء والأبصار الكليلة قصدًا وعمدًا حين غاب عن الحقل نواطيره بشتى الوسائل الخبيثة واللئيمة والمبيدة، إذ خلا الجوّ للغرّاس الجُدد من أبناء هذا الوطن المنكوب، ومن حاكمي أعدائه اللؤماء والجشعين وخدم المفسدين في الأرض من ألفَي سنة، أجل..خلا لهم الجو والمجال برًا وماءً وسماءً لإنبات أردأ وأخسّ النبتات، كما قال في الخلوّ الملائم، الشاعر طَرَفة البكري (564م) : يا لكِ من قُبَرَةٍ بَمَعمَرٍ خَلا لكِ الجوُّ، فبيضي واصفِري قد رُفع الفخُّ، فماذا تحذري؟ ونقّري ما شئتِ أن تنقّري قد ذهب الصيّادُ عنكِ قابشري لا بدّ من أخذِكِ يومًا فاحذري ! هذه الأبيات تنطبق مضامينها على إنتهازية الحكومات العراقية الضالّة الفاسدة التي تهافت ازلامها على كراسي الحكم المعبودة لديها بدلاً من الله، بلا أمانة وضمير وإخلاص، وغافلة تمامًا حتى الآن عن مآتي مفاسدها وجرائرها ومظالمها التي صبّتها على الشعب المضنَك، بدلاً من إسعافه وانتشاله وتحسين أحواله المعيشية والنفسية. هذه النبتات الرديئة الضارّة المسمومة الجارحة المُهلِكة، مثّلتها غالبية الوزراء والمدراء والرؤساء والموظفين والإعلاميين وجيش عرمرم من الفضائيين في القوات المسلّحة الدفاعية والأمنية، وجماعات موالية في الخفاء والعلن للإرهابيين والمتطرّفين، كما كان وما يزال بينهم أفراد معَمّمون، سرت بينهم أمراض الخيانة ـ فالفساد في حد ذاته هو شكل يمثّل درجة من التقصير المتعمّد ـ وعدم الإخلاص أيضًا ضربٌ من الخيانة والإبتزاز والرشوة والسرقة والتزوير التي هي صنوف ذات درجات من الخيانة للوطن والواجب والدين والقَسَم. الخيانة كانت، ولم تزل، هي العلّة الأقوى لتردّي الأحوال، بدءًا من القضاء الخاضع لإرادات الخائنين والجشعين والمفسدين والظالمين والمنافقين والمتواطئين مع الإرهابيين والمتطرّفين والمتزمّتين سرًا وعلنًا، في الموصل والأنبار وديالى وبغداد. فالمؤسسة القضائية تتحمّل الوزر الأكبر من الفساد العام الشامل، بددليل مئات من ملفات الفساد التي لم يُنظر فيها أصلاً أو التي لم يُبتّ فيها. هل يتوقّع عاقل سَوِيّ، عارف جيّد الإطّلاع، صائب التحليل، أن يصدر أيّ إصلاح جّذري أو بسيط، أو مِفصَلي وحازم وسريع، كما تقتضيه أحوال البلد الراهنة؟ حتمًا لا يتوقّع ذلك شخص يمتلك هذه الصفات. غدا العراق جسمًا عليلاً، شبه مشلول، مصابًا بعلل عصيّة على الشفاء من رأسه إلى قدميه، فقد نخرته ـ حتى نخاع العظام ـ الطائفيّة الموغلة في النفعيّة والأنانية ، قاتلة المحبة والتآخي والمواطنة والأهليّة والفضيلة والقناعة والأمانة والنزاهة ، وسمّمت حُجيرات جسد الفرد العراقي المزكّى والمرشّح من الجهات الطائفية والفئويّة والمخاصَصِية، وبات هذا الفرد عبدًا يعتنق فكرة أو نزعة إقصاء الآخرين المختلفين عنه دينًا ومذهبًا وعِرقًا ولسانًا. فنشأت الكتل على هذا الأساس المعوج الركيك، فكانت كتلاً لا تعمل لصالح الوطن، بل لمصالحها الذاتية الضيّقة التي همّها الأول الإنتفاع بالمزايا في الرواتب الخيالية والحمايات والمخصصات، وتوفير الطاقة الكهربائية وتزويد الماء النقي لمساكنهم، في حين حرمان مساكن الشعب في كل المدن والأقضية من الطاقة والماء، فضلاً على حرمانهم من تقديم الخدمات الأخرى العديدة. علاوة على تسلّمهم كل تلك الخدمات والمدخولات العالية في أثناء الأداء الوظيفي والنيابي، ثم بعدهما في أثناء التقاعد الضخم عن خدمة قصيرة جدًا، إنغمست أيادي الغالبية في مناصب السلطتين التنفيذية والتشريعية في أحواض السرقات والرِشى والإبتزاز إلى حد جاوز التُخمة، حتى عمّت روائح مفاسدهم وخياناتهم بين طبقات الشعب كافّة، إضافة إلى خذلان أماني شعبهم في أبسط حقوق المواطنة، وعدم الإستجابة إلى مطالب الشعب المُلِحّة الواجبة والمُعلَنة طيلة عشرة أعوام، والمعروضة عِبرَ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكلها كانت كأصوات وصرخات في فلوات. إنّ أجسم المفاسد والخيانات وأكثرها عددًا يندرج في العقوبات القانونية تحت بنود سرقة المال العام الضخمة إلى حدود المليارات، ليستحق عقوبة الإعدام. فهل حتى الآن ـ برغم انصرام أكثر من عام على تشكيل الحكومة الحاضرة، ومضيّ شهر ونصف على انطلاق أصوات التظاهرات الجماهيرية المدوّية، وإعلان الحكومة بعض الإجراءات الترقيعية التقشّفية، بدلاً من إجراء الإصلاح القضائي الخطير، تمهيدًا لمحاكمة جيش من المفسدين والخائنين، ولإجراء إصلاحات أخرى بعد البت فيها قضائيًا ـ هل يتوقّع عاقل أن تقوم الحكومة الحالية بإجراء أيّ إصلاح صغير، في حين أن الحكومة الحالية محاطة بالمتآمرين في الداخل والخارج على مستقبلها، فضلاً على إحاطتها بالمفسدين الرئيسيين منذ 12 عامًا؟! أرى كما يرى غيري الملايين من الشعب أن قوة الحكومة الحالية، للقيام بذلك الإصلاح الثوري المنشود ، لهي أوهى من خيوط العنكبوت! لقد مدّ الفساد الذميم أطنابَه عميقًا في الواقع العراقي ماليًا وإداريًا واجتماعيًا ومعيشيًا، فبلغ حدّ الترهّل والمرض الخطير ،الذي لا يُنقذه ولا تعافيه عقاقير التهدئة والتخدير والتأميل والترقيع السُلحفاتي، إذ قد أمسى الحقل الموبوء باكوام المفاسد والأضرار في مسيس الحاجة إلى عمليات الكَي والقلع والإصلاح الثوري الفوري والجذري، فبغير هذه الوسائل الناجعة لن يبقى عراق عرفه العالم المتحضّر في أدواره التاريخية قديمًا بأرض السواد وبلاد الرافدين، وكما عُرف حديثًا منذ عام 1921 وحتى الآن. أجل، غزا الفساد الكالح كل مرافق الدولة ومؤسساتها وطبقات الشعب ، حتي في ميادين الرياضة البدنية ، وبلغ سوء الأحوال إقتصاديًا ومعاشيًا إلى دون مستوى الفقر عالميًا، وإلى أدنى دركات مستوى تقديم الخدمات. أمّا أمنيًا، فحدّث عنه بلا حرج، حيث التفجيرات والحرائق والإغتيالات والخطف والتهجير والنزوح إلى وقوع الكارثة الدهياء بالغزوة الداعشية النكراء، فكانت ثالثة الأثافي! ولا ننسى الهبوط في المجالات الصحية والتعليمية والبيئية والإروائية، ونزلاء السجون العديدة المعلومة والسرّية وما يجري فيها من اغتصاب وتعذيب وعدم محاكمة الكثير منهم وعدم تنفيذ الأحكام الصادرة بحق أخطر المجرمين والإرهابيين. وبلغ التنكّر للوطن، ونبذ الروح الوطنية حدًا شائنًا وهو إستحصال عدد من الوزراء والبرلمانيين والرؤساء جنسيّات أجنبية، شرقية وغربية، ، ومع ان الدستور نصّ على التخلّي عن الجنسية الأجنبية في حالة إسناد منصب رسمي إلى حامل الجنسية الأجنبية، غير أن إلتفافًا على الدستور أو بصدورتعديل ينقض النص المانع هيّأ المجال لحاملي الجنسية الأجنبية ان يبقوا في مناصبهم الرسمية. هكذا إنتهز الفرصة الفاسدون والخائنون ذوو المناصب الرفيعة هذه المنحة الأجنبية كي يعيثوا فسادًا، ويقترفون المحرّمات، منها سرقات المال العام التي تستوجب عقوبة الإعدام، ليهربوا إلى الدول الأجنبية التي منحتهم جنسياتها مقابل مراعاة مصالحها الذاتية على حساب الإضرار بمصالح الوطن، ومنها سرقة المال العام. فأيّ عقوق هذا، وايّ فساد وخيانة! ومعلوم أن بعض الدول الغربية والشرقية تمنح جنسياتها إلى شخوص ذوي مكانة رفيعة في المجالات العلمية والفنية والفكرية، وهذا المنح مدعاة لتشريف المتلقّي وتفدير المانح. فالبون شاسع جدًا بين الحالتين، علاوة على سوء القصد والإنتهازية غير اللائقة في الحالة الأولى. وبلع جشع الفاسدين لدى عدد كبير من المسؤولين الكبار الذين تآمروا على مستقبل الوطن مع الأجانب الطامعين خارج الوطن ـ بحجة معارضتهم النظام قبل سنوات من نيسان 2003 ـ أن يطالبوا بما سُمِّيَ بالخدمة الجهادية (!) لِتُحتسب خدمة لغرض التقاعد. فأيّ جهاد هذا للوطن في حين كان لخدمة مصالح بعض الدول الأجنبية التي أسهمت في غزو واحتلال العراق غير الشرعي بل إجرامي في عام ?! 2003 ومع كل هذه المثالب والنقائص، إرتفع قبل أيام صوت أحد هؤلاء في دست الحكومة بالقول: إن حكومة جمهورية العراق حكومة ملائكة .. حكومة ملائكية(!) فشتّانَ بين الثرى والثريّا! وهل يُجنى من حكومة كهذه صلاح أو إصلاح مُجدٍ وناجِع ؟ إقتبستُ عنوان مقالي من إحدى مواعظ السيد المسيح، إستنادًا إلى إنجـــــــــيل متّى (7: 16-20) إذ قال متسائلاً : ( أيُجنى من الشوكِ عنَب أو من العُلّيقِ تين ؟) .لا ريب أن الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل يكون بصيغة النفي إلى حد المستحيل. ويردفه السيد المسيح بالقول [ كذلك كل شجرة طيّبة، تثمر ثمارًا طيّبة؛ والشجرة الخبيثة، تثمر ثمارًا خبيثة ….وكل شجرة لا تقمر ثمرًا طيّبًا تُقطع وتُلقى في النار.] فهل كان رجال الحكم والسياسة والإدارة ومجلس الأمة في العراق من 2003 حتى الآن أشجارًا طيّبة الثمار؟ الجواب: من ثمارهم يُعرَفون. و”الإنسان يُعرف من فِعلِه “، أصالحًا كان أم طالحًا. فليمكث الشعب واثقًا أن إرادته وقراره هما فوق الدستور والقضاء حين يأزف وقت الإصلاح. وليبقَ لسان حال الشعب في ثورته الإصلاحية طِبقًا لمضمون هذين البيتين: أنا الشعبُ دومًا أريدُ الحياة ولا بدّ للحقِ أن ينتصر أنا الشعبُ أبغي زوالَ الفساد ولا بدّ للبغيِ أن يندثر
|