نحن والبراغماتية

 

البراغماتية السياسية منهج في الممارسة السياسية يرمي الى ان الفكر لايمكن له بلوغ الهدف من الحقيقة الا بمقدار نزوعه نحو الواقع ، ولايقاس صدق مسألة ما الا بنتائجها العملية ، بمعنى انها تربط مابين النظرية والتطبيق .  وترى ان جدوى النظرية يكمن في مدى قدرتها على التطبيق وهذا التطبيق يقوم ومن ثم على المعاينة والتجربة .

وتعد البراغماتية رد فعل على الفلسفات العقائدية والايديولوجيات التي تؤمن بأن الحقيقة منجزة ويقينية اي بمعنى انها ثابتة لاتقبل بأي تغيير ، بينما تعني البراغماتية التحول والتطور في مقابل الثبات ، وهذا التغير والتحول بصفة مستمرة هو الذي يؤدي الى بث الروح الجديدة وعدم الاستسلام للافكارالجامدة بل ورفض قدسية الافكار وعدم الجزم المطلق في قضية معينة .

وبذلك تكون البراغماتية السياسية بعيدة عن الايديولوجيا ومن شأنها أن تؤدي الى الاستقرار السياسي والاقتصادي من خلال التعامل بايجابية مع المستجدات المحلية والدولية بشكل جدي وباساليب ديمقراطية .

والتساؤلات المطروحة هنا :

هل ان العمل بالبراغماتية يعني تغليب المصلحة على المبدأ والموروث ؟

لقد دار جدل فكري كبير حول ماهية البراغماتية التي فهمها البعض على انها النفعية بعيدا عن المبادئ والاخلاق وبأنها مشروع للتسلط والهيمنة دون الغوص في عمق معنى البراغماتية التي تعني ان الحقيقة تكمن في الفكرة النافعة كما يقول (جون ديوي) وهو احد منظري البراغماتية . والفكرة النافعة هنا حسب رأيه هي الاجابة عن سؤال وايجاد حل لمشكلة ما . اما الفكرة التي لاتقدم حلا فانها تبقى رهينة الاطار المعرفي ولا تتعداه وهذا هو الفرق تحديدا بين البراغماتية وغيرها من الفلسفات الاخرى .

كيف اذن يتــــــم التوفيق بين المبدأ والمصلحة في ظل البراغماتية ؟

يمكن القول بأن انتاجية الانسان تستند الى مقدراته على الاخذ والعطاء الدائم وهذا هو المفتاح الحقيقي لأي تطور . كما ان الالتزام بالاخلاقيات من ناحية المبدأ خاضع ايضا للتجريب والا فان ذلك سيؤدي الى جمود الاخلاق ، ومن ثم يوقف عجلة تقدم الانسان حيث ان البراغماتية هنا تمثل مصنعا للافكار التي تقاس بمدى خدمتها للانسان وليس العكس .

كما تقتضي البراغماتية الانتقال من مرحلة الصراع المسلح الى مرحلة الحوار والسلم والتخلي عن مايسمى بمفهوم صراع الحضارات ليحل محله حوار الحضارات بما ان الصراع يقوم في اساسه على الاختلاف الذي يشكل فيما بعد قوتين متعارضتين متضادتين قد ينتج عنهما التطرف والعنف و يتخذ احيانا شكل صراع عسكري ، لذا فان الحوار هو الحل الوحيد البديل عن اي صراع وهذا الحوار هو ناتج عن البراغماتية التي  تسعى .

لإحداث توازنات في الداخل والخارج وتغليب للمصالح العليا وتسخير الطاقات لخدمة المجتمع.

ويدفعنا ايماننا بالديمقراطية والتعددية والدولة المدنية وحقوق الاقليات واحترام الاخر الى البحث عن حوار ناجع سواء على صعيد الداخل الكردستاني او على الصعيد الخارجي مع الدول المجاورة وغير المجاورة .

وطبيعي ان اي عمل ناجح له مردود ايجابي لذا يصفنا البعض بالبراغماتية بسبب ماحققه الكرد من نجاح على هذين الصعيدين الداخلي والخارجي .

هل نحن براغماتيون كما يصفنا البعض ؟

 اذا كانت البراغماتية تعني التأقلم مع المستجدات والتناسق مع المرحلة الانية دون الاخلال بثوابتنا ، فذلك يعني بأننا لسنا طوباويين لاننا نريد ان نرسي دعائم مجتمع قوامه الحوار واعطاء الحقوق والواجبات ويقوم على الفصل بين السلطات ويسعى لبناء مجتمع مدني يعضده التوافق على اساس الهوية الكردستانية التي تضم الجميع في باقة مزهرة .

ونحن نبحث اساسا في فكرنا السياسي عن جذور للتوافقات السياسية وعن من يلتقي معنا في القناعات والثوابت القومية ونستمع وننصت لكل الاطراف داخلية كانت او خارجية ونفتح سبلا للمقترحات والافكار التي تخدم قضية شعبنا من اجل ترسيخ الديمقراطية . فاذا كانت تعني البراغماتية كل هذا فانها حينئذ منهج يسعى لاستتباب الامن السياسي والاقتصادي في الدول كافة وليس في اقليم كردستان وحده . لقد تخلت العديد من الاحزاب في الشرق الاوسط عن اساليبها القديمة ومنها الاحزاب الاسلامية فصارت تفتح سبلا للحوار مع من كانت تسميه بالعدووصارت ترفع الكلمة بدل السلاح كما انها اتخذت طرقا اكثر دبلوماسية لحل القضية الفلسطينية مثلا او حتى في مصر حيث فتح الاخوان باب الحوار مع امريكا .

إن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني ليست قيادة طارئة وليست وليدة عهد بالنظريات السياسية بل ان لها نضالها الطويل الذي يمتد لاكثر من ستين عاما ، لذا فانها تحافظ على ثوابتها التاريخية ومبادئها الاساسية وتسعى في الوقت نفسه الى التشاور والتباحث في شؤون كردستان الداخلية والخارجية .وهذا يتضح من خلال علاقات كردستان بالدول المجاورة والدول الاخرى غير المجاورة التي تتسم بالمرونة والدبلوماسية .

لقد اثبتت التجربة الكردستانية نجاحها على مدى اكثر من عشرين عاما مضت وقدمت انموذجا عصريا ناجحا بالرغم من التحديات التي واجهتها .وقد يعود الفضل للنظريات السياسية الحديثة  التي نجحت في خلق مرونة في الداخل كما هي في الخارج .