صنع في العراق: نعم ..100% :لا

قرأت مؤخرا خبر مفاده ان الشركة العامة لصناعة السيارات أعلنت عن المباشرة بالتشغيل التجريبي لخط انتاج وتجميع سيارات كيا الكورية. وزير الصناعة و المعادن السيد محمد صاحب الدراجي صرح ان " هناك محاولات لإنتاج سيارات عراقية 100% , ولكنها تأخذ وقت " لافتا الى "اننا بدأنا بالخطوات الأولى بهذا الاتجاه". خبر جميل ومفرح وأتمنى ان يكون عدد الاخبار من هذا النوع يفوق عدد اخبار القتل والتفجيرات والاختطافات التي نقرأها كل يوم في العراق. أتمنى ان اقرأ خبر انتاج العراق المعدات الثقيلة , الحاسوب , الأجهزة الكهربائية , الحديد بكل انواعه , السمنت بكل انواعه , وأتمنى ان اقرأ واسمع ان العراق بدأ بإنتاج وإصدار الحنطة والشعير , المواشي , منتجات زراعية وحيوانية , وأتمنى ان اقرا ان التمور العراقية عادت الى عافيتها واستطاعة حكومة البصرة إعادة الحياة الى أنواع التمور التي اندثرت بسبب العطش , المرض , الإهمال , والحروب . الخبر افرحني لان إعادة الحياة الى قطاع الزراعة والصناعة يعني دوران العجلة الاقتصادية وتوفير فرص العمل للعراقيين , لان قطاع الخدمات يحمي التنمية الاقتصادية ولا يمكن قيادة عملية التنمية الاقتصادية . على سبيل المثال , ان القطاع الأمني قطاع غير انتاجي ولكن التجارب اثبتت بما لا يقبل الشك ان وجود قوات امنية ومدربة و مجهزة يعتبر دعم للعملية الاقتصادية . القوات الأمنية قطاع استهلاكي ولكن زراعة النخيل قطاع انتاجي لان بعد عشرة سنوات نستطيع اكل ثمارها.

شيء جميل ان يستطيع العراق انتاج سيارة عراقية 100%. ولكن 100% انتاج وطني غير ممكن وغير مرغوب به. نعم انتاج وطني 100% غير ممكن وغير مرغوب لان الإنتاج قد يكون على حساب الكفاءة والتي تقاس بحجم الأرباح. رجل الاعمال قد يضطر الى استخدام أدوات و أجزاء مصنعة خارج بلده حتى يستطيع الوقوف امام منافسيه خاصة اذا كانت أجور ذلك البلد أجور مرتفعة او الظروف البيئية لا تساعد على انتاج محصول معين , او عدم وجود الخبرة والتجربة . العراق يستطيع زراعة محصول البن (حبات القهوة) ولكن ستكلف زراعة البن في العراق اكثيرا بكثير من زراعتها في كينيا او نيجيريا او افريقيا الوسطى. زراعة القهوة تحتاج الى ظروف بيئية غير متوفرة في العراق ولكنها متوفرة في أجزاء مهمة من افريقيا وبذلك فان كلفة انتاجها أرخص بكثير من العراق. الصناعات الرأسمالية (الآلات والمعدات الثقيلة) في الولايات المتحدة الامريكية أرخص بكثر من انتاجها في الهند او فيتنام او الفلبين وذلك لان كلفة رأسمال (الفائدة) في هذه الدول أكثر بكثير من الولايات المتحدة الامريكية. الا ان انتاج البضائع الاستهلاكية في الهند ارخص بكثير من صناعتها في الولايات المتحدة الامريكية او أوربا , لان كلفة الايدي العاملة في الهند ارخص بكثير من الايدي العاملة في أوربا او أمريكا .

حتى تستطيع الشركات الصناعية في الولايات المتحدة الامريكية و أوربا و اليابان وحاليا الصين الوقوف امام منافسيها في الأسواق العالمية تقوم هذه الشركات اما بتأسيس فروع إنتاجية في البلاد ذات الأسواق الكبيرة والايدي العاملة الرخيصة او شراء أجزاء تدخل في انتاجها من الأسواق الخارجية. هذا الاتجاه الحديث يدعى إداريا (outsourcing) او (الاستعانة بمصادر خارجية) عندما تقوم شركات معينة بشراء أجزاء تدخل في انتاجها النهائي من الأسواق الخارجية بدلا من انتاجها محليا. أسباب كثيرة تدعو الشركات بالاستعانة بمصادر خارجية منها هو تخفيض تكاليف الإنتاج والتشغيل , تجنب المشاكل القانونية والادارية , التركيز على نوعية الإنتاج وسمعته , والمرونة . على سبيل المثال الشركة لا تحتاج الى استثمار أموال ضخمة في مصنع جديد والآت و مكائن جديدة والتي قد تصبح منتهية الصلاحية سريعا. الاستعانة بمصادر خارجية تجنب الشركات هذه المخاطر والكلف الغير مبررة.

جميع الشركات الصغيرة والكبيرة , الصناعية والخدمية تستعمل نظام الاستعانة بمصادر خارجية . شركة بوينك لصناعة الطائرات المدنية استخدمت 783 مليون جزء منتج خارجيا لصناعة 600 طائرة عام 2013 , بينما استخدمت الشركة أجزاء المصنعة خارجيا اكثر من مليار جزء من حوالي 7500 مجهز من 73 دولة ينتفع منها ما يعادل ,500,000 انسان لصناعة 700 طائرة عام 2014.

اذا، المنافسة والربح يفرضان نفسهما بقوة عند قرار الإنتاج. انتاج الذي لا يستطيع الوقوف امام المنافسة بسبب سعره او بسبب جودته مصيره الموت , والإنتاج الذي لا يحقق الربح مصير صاحبه الإفلاس. وهذا بالضبط ما حصل للقطاع الصناعي الحكومي خلال الفترة قبل التغيير. الإنتاج العراقي لم يستطع الوقوف امام المنافسة العالمية بسبب سوء انتاجه وارتفاع أسعاره ولولا الدعم الحكومي الضخم له لما بقي على قيد الحياة طويلا. الإنتاج المحلي سوف لا يستطيع منافسة الإنتاج الأجنبي ما دامت هناك مشاكل كثيرة لم تحل بعد وعلى راسها الطاقة الكهربائية , الطرق الحديثة والسريعة , الشحن المنضبط , المخازن , الفساد الاداري والأمني , والاستقرار الأمني والسياسي . وعليه سوف لن يكون غريبا علينا ان نسمع ان كلفة لحوم الدجاج المستوردة ارخص من الإنتاج المحلي او كلفة كيلو من الطماطة العراقية اكثر من الطماطة المستوردة من ايران , او كلفة البدلة الرجالية ارخص بكثير من كلفة انتاجها في العراق .

السيد محمد صاحب الدراجي فشل في اجتياز امتحان مادة الاقتصاد ويحتاج الى إعادة قراءة الموضوع مرة ثانية. العراق ربما يستطيع صناعة سيارة عراقية 100% ولكن ستكون كلفة انتاج هذه السيارة أغلي من سيارة مرسيدس ورولزرويس وبنتلي. وسوف لا تجد شركة صناعة السيارات العراقية مشتري لها وتغلق أبوابها. انتاج السيارات يعتمد على الإنتاج الكبير وفي العراق لا يوجد سوق كبير للسيارات وإذا وجد ذاك السوق فسوف يتجه المشترون الى السيارات الأجنبية ذات الاناقة والسمعة والكفاءة. العراقي يحب الكشخه وهو حق له حاله مثل حال عباد الله.

الأستاذ الدراجي ربما أطلق تصريحه هذا لتطمين المتظاهرون الذين يطالبون بتوفير فرص العمل ولكن اقتصاديا غير معقول ومن المعقول ان تكون شركة صناعة السيارات شركة لتجميع السيارات وهو هدف ليس بالصعب كل ما يحتاجه السيد الوزير هو الاتفاق مع شركات صناعة السيارات العالمية بتأسيس خطوط لتجميع السيارات في العراق. المشروع سيخلق فرص عمل كبيرة للمواطنين مع أجور فوق معدل أجور القطاعات الأخرى وسيكون المشروع بمثابة ورشة تدريب وخبرة للعامل العراق وسوف يخلق فرص عمل جديدة حول هذا المشروع مثل المطاعم , الفنادق , الأسواق التجارية , وأسواق البقالة .

اريد ان اقترح على السيد الدراجي ان يهتم بالصناعات الخاصة بقطاع البناء بعد القضاء على مجاميع داعش الإرهابية. لا اعتقد ان بإمكانية العراق ان يكون دولة صناعية في الوقت الحاضر او الوقت المنظور ولكن من الممكن ان يقود قطاع البناء التنمية الاقتصادية لان العراق بحاجة الى ثلاثة ملايين وحدة سكنية. على السيد الدراجي التحرك الان على تأسيس مشاريع اسمنت حديثة , طابوق , مقالع للحصى والجص والرمل , أبواب وشبابيك حديدية وخشبية , اصباغ, سجاد , مسامير , وبلاط . العمل سوف لن يكون سهلا , ولكن من الممكن إنجازه وسيخلد اسم السيد الدراجي لهذا العمل في كتب التاريخ والتنمية الاقتصادية وربما سيسميها الاقتصاديون " ثورة الدراجي العمرانية".