الجدار المعجزة



  يوماً بعد يوم تتنامي مشكلات المؤسسة التربوية العراقية الناجمة عن إخفاقِ الإدارات التي تعاقبت على تسييرِ أمورها بعد عام 2003 م عن معالجةِ الصعوبات الكبيرة التي ورثتها من عهدِ نظام الطاغية، فضلاً عما لحق بها من أدرانٍ خلال سنوات المرحلة الانتقالية. إذ أن إعلان وزارة التربية نجاحها خلال الستة أشهر الأولى من عمرِ الحكومة الحالية في إرسالِ ( 18 ) ألف تربوي إلى بيروت؛ لتدريبِهم على المناهجِ الدراسية الجديدة لمادةِ اللغة الإنجليزية في ظلِ الصعوبات المالية التي تعيشها الوزارة، لم يجعلها بمنأى عن آثار مشكلة الأبنية المدرسية التي وجدت لها حضوراً مميزاً في واجهةِ المشهدِ المحلي، ولاسِيَّمَا بعد إعلان لجنة النزاهة النيابية فتح ملف الأبنية الجاهزة، فضلاً عن الأبنيةِ الحديدية التي يشار إليها  باسمِ ( البريكاست )، إلى جانبِ تحميل لجنة التربية والتعليم النيابية وزيرا الصناعة والإسكان والإعمار في الحكومةِ السابقة، بوصفهما  المسؤولين عن استراتيجيةِ الوزارة والشركات العاملة، مسؤولية الفساد الذي لحق بقطاعِ التربية على خلفيةِ المساومات السياسية التي أفضت إلى سرقةِ الأموال التي خصصت لبناءِ المدارس الجاهزة التي لم يتم تدشينها لحدِ الآن جراء التلكؤ الذي تسبب بافتقارِ هذا المشروع إلى إنجازٍ ملموس. وأدهى من ذلك ما أعلنته لجنة النزاهة النيابية من أن الاموالَ التي خصصتها الحكومة السابقة لإنشاءِ المدارس الجاهزة التي تصل إلى أكثرِ من ( 450 ) مليار دينار عراقي، جرى إيداعها في مصارفٍ أهليةبفائدةٍ قدرها ( 4% ) تمت الاستفادة منها من بعضِ السراق!!.

  تشكل البناية المدرسية أحد أهم أركان العمليةِ التربوية التي أصبحت اليوم مثار جدل جراء العجز الكبير بعددِ البنايات المدرسية التي يعود تأريخ انحسارها إلى عام 1989 م الذي شهد آخر الفعاليات الخاصة بإنشاءِ الأبنية المدرسية التي أقيمت بأسلوبِ البناء الجاهز، إضافة إلى البناء بالثرمستون، الأمر الذي فرض على إدارةِ التربية تشكيل مديرية خاصة بالأبنيةِ المدرسية في أعقابِ سقوط النظام البائد بعد أن كانت مسؤولية إقامتها منوطة بوزارةِ الإسكان، بغية المساهمة بتقليصِ نسبة العجز بواقعِ الأبنية. ويضاف إلى إخفاقِ التربية بإنجازِ مضامين هذا الملف الآثار السلبية التي خلفتها سياسة هدم الأبنية المدرسية بدعوى الخشية من انهيارِها، ما ألزم مديريات التربية اللجوء قسراً إلى نظامِ الدوام المزدوج أو الثلاثي، إلا أنَ تفريغَ الأبنية المدرسية المشمولة بالإزالةِ وعدم الشروع بإقامة بديلاً عنها منذ أكثر من عامين أضاف أبعاداً جديدة لمشكلاتِ التربية الراهنة. وهو الأمر الذي دفع الأهالي إلى المطالبةِ عبر التظاهر بمنعِ تنفيذ قرار هدم المدارس بسببِ تفاقم معاناة الطلبة والهيئات التعليمية على حدٍ سواء  من تداعياتِ الدوام الثلاثي، وربما الرباعي مثلما حصل قبل مدة في منطقةِ الثورة وسط مدينة الحلة بمحافظةِ بابل حين تظاهر العشرات من أبناءِ المدينة أمام مبنى مجلس المحافظة للمطالبةِ بمنعِ تنفيذ قرار هدم مدرسة ( العقيلة الابتدائية ) من قبلِ وزارة التربية بهدفِ بنائها مرة أخرى؛ بالنظرِ لتعثرِها في إعادةِ بناء مدرسة في ذاتِ المنطقة جرى هدمها منذ أكثر من سنتين ولم يصل البناء فيها لحد الآن إلى أكثرِ من ( 10 % )!!.

  إذا سلمنا بوجودِ ما يعيق إدارة التربية في سيرِ عملية إعادة إنشاء المدارس التي هُدمت أو شُملت بقرارِ الإزالة، وجرى نقل إداراتها بشكلٍ كامل ضيفاً ثقيلاً على مدارسٍ أخرى على الرغمِ من تحفظِ كثير من المختصينِ في مجالِ البناء والإنشاءات على هذا التوجه؛ لقناعتِهم بإمكانيةِ استمرار بعضها في احتضانِ تلاميذها لسنواتٍ قادمة، وإذا أجبرتنا الظروف القبول بتحويلِ جنس بناية ( ثانوية الحسن البصري ) في قضاءِ الزبير بمحافظةِ البصرة الفيحاء من مدرسةٍ تعد أقدم مدارس القضاء إلى مرآبٍ لوقوفِ السيارات منذ سنتين بعد تهجير ساكنيها من المعلمين وتلامذتهم، فمن غيرِ المعقول أنْ يستسيغَ مجتمعنا بقاء مدرسة ( الأمام الهادي الابتدائية ) في منطقةِ الحسينية شمالي بغداد من دونِ ستر يحفظ هيبتها ويقي قاطنيها من عبثِ العابثين في هذا الزمان الذي أصبح فيه العتوي طريدة الجرذِ بعد أن سقطَ جدارها ليلة 27 شباط من العامِ الجاري، ولم تجدِ زيارات مدير عام تربية شمالي بغداد، فضلاً عن المشرفين التربويين نفعاً في مهمةِ تزويده بجرعةِ إنعاش تمكنه من النهوضِ والوقوف مثلما كان شامخاً لحمايةِ باحة مدرسته وحشائش حديقتها من فضولِ الأبقار والماعز والأغنام والحمير، إلى جانب إدخال الأمان في نفوسِ تلاميذها من خطرِ الكلاب السائبة.

 الهيئة التعليمية لمدرسةِ ( الأمام الهادي الابتدائية ) وهي تحث الخطى لاستقبالِ العام الدراسي الجديد، حسبها عبارة أطلقها أحد رعاة الماشية التي تجوب أكثر مناطق بغداد تحضراً من دونِ رقيب، حين جلس على أنقاضِ الجدار للاسترخاء وإشعال سيجارته وهو يردد:

هنا العراق معلم الإنسانية، حيث كتب أول حرف نير..

هنا بلد الحضارات والعلم والمعرفة، الذي أصبح بلد جدران المدارس النائمة في حضنِ الفساد!!.