هموم عبد الله في المهجر

هاجر عبد الله من العراق الى الولايات المتحدة الامريكية في السبعينيات من القرن الماضي عندما كان عمره سبعة وعشون عاما. الهجرة انقذ ت حياته من حرب ايران والتي طالت ثمان أعوام اكلت الأخضر واليابس , وانقذته من الانضمام الى قوات الجيش الشعبي السيء الصيت , وانقذت رقبته من اعدامات النظام السابق والذي كان يقتل معارضيه على الشبهة .

عبد الله كان شابا طموحا ويعمل بكل نشاط وجدية وإخلاص من اجل اكمال دراسته الجامعية , واحب ثقافة بلده الجديد , الولايات المتحدة . لم يعاني من مشاكل انقطاع القوة الكهربائية المتكررة (فقط أيام العواصف الرعدية) , ولم يعاني من شحة مياه الشرب الذي يعانيه اهل البصرة الكرام , ولا تراكم الاوساخ , حيث يوجد يوم معين يتم جمعها من امام داره من قبل شركات التنظيف , يستخدم شبكة انترنيت متقدمة لم تدخل تقنيتها الى كثيرا من الدول , مستشفيات جاهزة لاستقبال المرضى من كل الاعمار والحالات المرضية . البلد الجديد وفر له عمل محترم استطاع منه شراء بيت ليس قصر شعشوع وانما بيت يليق بمواطن من الطبقة الوسطى , ارسال أولاده الى جامعات ذات سمعة معروفة برصانتها , حديقة صغيرة بجانب داره يقضي هو وزوجته ساعات جميلة على ترتيبها و تنظيفها من الاعشاب الغير مرغوبة , سفرات داخلية وخارجية متكررة ,وسيارة ملك صرف , أي بدون ديون عليها .

بقي ان أقول أيضا ان عبد الله كان رجلا غير عادي , فقد كان أستاذ دراسات عليا في احدى الجامعات الامريكية المرموقة وقد تقاعد منها بعد 30 عاما من التدريس مع راتب تقاعدي فوق معدل الدخل الفردي للمواطن الأمريكي.

لماذا هذا السرد التاريخي عن حياة عبد الله ؟ الجواب هو ان ليس كل من اتجه الى الولايات المتحدة الامريكية يتمتع بنفس الامتيازات التي توفرت الى الأستاذ عبد الله . الكثير ممن قابلت من العراقيين الذين اختاروا الولايات المتحدة الامريكية بلدا جديدا لهم قبل وبعد التغيير لم يكونوا من المحظوظين الا ما ندر. صحيح ان المهاجرين تخلصوا من الاعمال الإرهابية وقلة الخدمات المتوفرة في الوطن الأصلي ,الا انهم ما يزالون يعانون من شظف العيش , حيث ان اغلبهم يعملون اما بأجور يومية او اعمال حرة تؤهلهم الاستفادة من المساعدات الحكومية في متطلبات حياتهم.

المهاجرون الذين ما زالوا يعتمدون على المساعدات الحكومية حتى بعد 15 عاما من وصولهم البلد الجديد هم من الشريحة التي لا تحمل الشهادات الدراسية او من الذين يحملون الشهادات الدراسية الغير مرغوب بها في هذا البلد. من يستخدم فرد يحمل شهادة الماجستير في اللغة العربية او الجغرافية او التاريخ , او حتى شهادة إدارة الاعمال ؟ هذه الشريحة عانت وما زالت تعاني من شظف العيش وعدم استقرار دخولهم. الولايات المتحدة الامريكية لا حاجة لها بمهاجر لا يحمل مؤهلات معينة مرغوبة في سوق العمل الأمريكي. في هذا البلد يوجد الملايين من العاطلين عن العمل ومن يحمل الجنسية الامريكية لانهم لا يحملون المؤهلات المطلوبة في السوق , ومن يبحث عن عمل يدر عليه دخل مستقرا , يجب ان يمتلك مؤهلات مرغوبة ان لم تكن اكثر من المرغوبة .

بالمقابل هناك شريحة من العراقيون استطاعت الحصول على عمل يوفر لهم العيش الكريم وهي شريحة الأطباء , الصيادلة , والمهندسين وخاصة حملة شهادة هندسة الكهرباء , البناء , والميكانيك . يضاف الى هذه الشريحة , شريحة أخرى وهي شريحة الحرفيين مثل ميكانيك سيارات , اعمال كهربائية , تصليح أجهزة كهربائية , صيانة شبكات الماء , التدفئة والتبريد , وحتى طبقة البنائين . هذه الشريحة استطاعة شق طريقها , وبصعوبة , الى مهنة البناء عن طريق عقود البناء الصغيرة مثل إضافة غرفة او إعادة بناء حمام او مطبخ , او تجديد سقف , او تجديد أرضية البيت او شراء بيوت متهالكة وإعادة ترميمها وعرضها للبيع . هذه هي ظروف المهاجر في الولايات المتحدة الامريكية والتي لا تختلف كثيرا عن ظروف البلدان الاوربية والتي أصبحت هذه الأيام كعبة للمهاجرين الجدد.

ما هي رسالتي الى المهاجرين الجدد او من يروم هجرة العراق؟ أقول لهم ان الهجرة حق وخاصة عندما تضيق حيلة المواطن في الأمان والعيش الكريم. الولايات المتحدة الامريكية وفرت الى دكتور عبد الله من العيش الكريم ما لم يستطع العراق توفيرها الى زملائه الذين يحملون نفس المؤهلات التي يحملها. هذه حقيقة ويجب الاعتراف بها.

ولكن الحقيقة الأخرى هي ان حياة المهاجر ليست بدون قلق وهموم. هم المهاجر يبدا من فراق الأحبة من الاهل والأصدقاء والجيران. هم ترك اخوات واخوان وهم ما زالوا يحتاجون العون والإرشاد والنصح والمراقبة. هم ترك الوالدة والوالد خاصة إذا كان أحدهم او الاثنان من المرضى. من يعينهم بمرضهم؟ بتوفير ما يحتاجونه؟ ومن يملا وحدتهم وفراغهم؟ هم إيجاد عمل يناسب مؤهلاته، هم العثور على سكن يناسب ميزانيته، التعايش مع ناس ليسوا من دينه او قوميته ويتحدثون لغة غير لغته وثقافة غير ثقافته. هم التعايش مع زملائه في العمل ذلك العمل الذي يتطلب ساعات طويلة. هم تربية الأطفال ونجاحهم في المدرسة. الحمد لله دكتور عبد الله استطاع ان يوصل أولاده الى بر الأمان , فقد اجتازوا مرحلة المراهقة بسلام واستطاعوا الحصول على شهادات جامعية , ولكن الكثير من اقرانه لم يستطيعوا تحقيق ذلك وخسروا أولادهم واصبحوا يلعنون صدام حسين واليوم الذي جاء بهم الى أمريكا .

هموم كثيرة يحملها طبقة المتقاعدون وكبار السن. الجيل الأول يبقى غريبا امام مواطنو البلد مهما وصل المهاجر من تقدم ورقي وهذا يشكل مشكلة للمتقاعدين في الولايات ذات الشتاء الطويل والثلوج الكثيرة. قد يمر أسبوع كامل بدون التحدث مع شخص وجها لوجه الا بواسطة التليفون. هناك هم الرعاية عند العجز خاصة عندما يكون الأولاد ليس قريبون منك. من يعد الطعام لهم؟ من يغسل ملابسهم؟ من يأخذهم الى الطبيب عند الحاجة؟ هناك دور رعاية لكبار السن و المرضى ولكن من يريد ان يموت بعيدا عن اهله , ومن يحب ان يحمل نعشه الغرباء ؟ ومن يحب ان يدفن بارض لا يضطجع بها ادم ونوح ومر بها نبي إبراهيم وبركت بها ناقة أيوب؟ وأخيرا , ما الفرق بين موت مهاجر وحيدا وموت غيلان السوري والعراقيان زينب وحيدر ؟

دكتور عبد الله يحب ان يقول للشباب الراغبين بالهجرة تريثوا قليلا , أعطوا فرصة للحكومة العراقية سنة او سنتين لإنجاز حزمة الإصلاحات , العراق ما زال بخير , فيه ثروات تكفي الجميع وستكون هذه الثروات بخدمتكم بعد القضاء على مجاميع داعش الإرهابية . لقد شاهدتم المهاجرون ومعاناتهم الهائلة للوصول الى البلدان الاوربية من خلال الصور والأفلام التلفزيونية. لقد لاحظتم طريقة استقبالهم في هذه البلدان من قبل الأجهزة الأمنية وهي بلدان بالأساس تعاني من اقتصادا مترنح وعطالة تفوق 10%. الدول المضيفة سوف لن تصرف كثيرا (قوت لا يموت) على المهاجرين الجدد وسوف لن تطول طويلا. اي بعد ستة أشهر سيتحمل المهاجر تكاليف معيشته. متاعب المهاجر الجديد الحقيقية ستبدأ بعد ستة أشهر وستلعب بها الاقدار بينما سيكون الشاب الذي اختار العراق مرفوع الراس بين اقرانه وأهله ينتظره خيرا وفير والأهم من كل هذا وذاك سيكون شاهدا على اندحار داعش في العراق. وهنا اترك القارئ الكريم مع بعض الابيات الشعرية للشاعر البارع عبد صبري أبو ربيع يقول فيه :

مهاجر انت مهاجر
وتترك وطن مآثر
وطن الرافدين والاكابر
وتترك الوطن للمحن والمخاطر
تتركه بين حاقد و ماكر