زمن غير جميل

يتأسّى كل جيل على الحياة التي عاشها الجيل الذي سبقه. وتسمّي الأجيال تلك الحقب «الماضي الجميل». أما الفرنسيون فسمّوها «الحقبة الجميلة»، يقصدون العشرينات من القرن الماضي، عندما ساد الهدوء بعد الحرب العالمية الأولى، وازدهرت الفنون، وانصرف الناس إلى الحياة، وعمّت حركة العمران بعد هدم طويل، وظهرت التيارات الفكرية الجديدة، واعتزّ الشعر، وتعمّقت الرواية، وخصّب المسرح وتجمّل الغناء.
بعد كل دمار كوني تتحرّك مشاعر وأعماق البشر والنوازع النبيلة فيهم. بعد الحرب العالمية الثانية قامت حقبة جميلة أخرى، أو زمن جميل آخر. هنا، في العالم العربي، تعزّز عصر النهضة وانتعشت الجامعة في مصر والعراق وسوريا ولبنان، وانتشرت الصحافة، وظهر رجال مثل طه حسين، والحبيب بورقيبة، يرون الحل في فرض التعليم، وانطلق الشعر والفنون في اتجاهات وآفاق جديدة، وعمّت الألفة بين العرب، وساد الرقي والتسامح، ونما الشعور بالأمل والوحدة والتقدم، واتّخذت الدول المستقلة حديثًا النظام التمثيلي والبرلماني حكومة لها. وتسلَّم الأحرار والنقاة مثل مصطفى النحاس إدارة السلطة بكل تواضع وتضحية ومحبة وحكمة وتسامح. وقيل مرة، إن رئيس وزراء مصر زيور باشا، جاءه وزير الداخلية يستعديه على الصحافيين، ويحرّضه عليهم لأنهم ينتقدونه، فقال له: «يا أخي، ما تسيبهم ياكلوا عيش!».
لكل جيل زمن جميل يتحسّر عليه أو يحلم بعودته. لكنّ هذا الجيل العربي ماذا سيترك للقادمين، إذا ما بقي أحد منهم في هذه البلاد، وانقلبت الأمة إلى الغرب و«أميركا»؟ وقد تبيّن بعد تهاوي الأنظمة الممانعة الكبرى التي تشتم «أميركا» كل يوم، أن بعض كبار رجالها أمضوا السنوات الأخيرة من أعمارهم في رحابها، يتمتّعون بكل ضمانة لم يمتّعوا بها أحدًا من مواطنيهم في أي وقت.
منذ 50 عامًا لم نترك شيئًا من الجمال للأجيال الطالعة. والآن لم نترك لهم بيوتًا يعودون إليها، ولا حتى ذكريات يحنّون إليها. ذهبت أزور أحد الأصدقاء فوجدت النقاش حادًا بين أمّه وشقيقته. الأولى تقول إن سر المجدرة (العدس) في تطبيق خليطه من الأرز أولاً، والثانية العكس. وفهمت أن صديقي الذي يعيش في الخارج يريد أن يحفّظ نكهة طبخ الأم لأبنائه وأحفاده. نكهة الاستمرار في عالم متناثر.