أكدر أشوفك!

 

 

 

 

 

طوال أسبوعين أو أكثر كان كل من يعبر جسر الجمهورية من الكرخ إلى الرصافة، أي من بوابة المنطقة الخضراء حيث مجمع الساسة والمسؤولين باتجاه ساحة التحرير حيث نصب الحرية وحشود الكسبة الشرفاء في ساحة الطيران، لابد أن يلاحظ عينا كبيرة مرسومة في أعلى بناية المطعم التركي، على الطابق 14 منه، عينا وحيدة مفتوحة على وسعها ومكتوب بجانبها هذه العبارة (أكدر أشوفك).

مَنْ هذا الذي يستطيع أن يرى؟ ومن هذا المرئي؟ لمن يتوجه خطاب هذا العمل الفني الجميل الصادم؟

العمل لفنان شاب جميل اسمه سجاد، حين التقيته قبل يومين بسرعة، نسيت أن أهنئه على عمله الأخاذ، لأني كنت منشغلا بخبر استدعائه من طرف ضابط كبير جدا في مكتب القائد العام للقوات المسلحة، تصوروا أن القائد العام لكل قواتنا المسلحة شُغل بهذا العمل الفني، الأمر الذي يدعو للتفاؤل، فذائقة فنية جيدة يمكن أن تنتج مزاجا رائقا يعمل بسويّة منتجة، مع معرفتي بأن قادة كبارا كانوا مرهفي الحس الفني لكنهم كانوا في ذات الوقت طغاة بل سفاحين، إذ ان هتلر على سبيل المثال كان رساما، وصدام روائيا أيام الحصار وشاعرا قبل إعدامه.

المهم.. تم استدعاء سجاد من القيادة التي أبلغته بضرورة أن يمسح عمله الفني، قيل ان هذه العين عين الماسونية، وكتبت صحيفة مقربة من الحكومة ان العين المرسومة أثارت مخاوف الأهالي. أنا شخصيا لم أخف، وكل من رآها لم يساوره الخوف، بل أورثته أسئلة عن سبب وجودها وعما ترمز له، وهذه سمة كل عمل فني ناجح.

مسح الفنان الشاب عمله وانتهى الأمر، لكن الأسئلة لم تنته، لماذا العين المفتوحة، ولماذا تتوجه العين إلى المنطقة الخضراء، ولماذا رسمت على المطعم التركي تحديدا؟

قد لا يكون الفنان قصد تماما المعاني التي استللتها أنا من العمل، فأنا فهمت الأمر رسالة إلى سكنة المنطقة الخضراء أننا نراقبكم كما تراقبوننا، رسالة من الفقراء إلى الأغنياء، ومن الأوادم إلى السياسيين، ووجودها في أعلى المطعم التركي في الطابق الذي احتشد فيه ساسة وعسس يراقبون القوات وهي تضرب المتظاهرين في 25 شباط الأغر، له دلالة واضحة أيضا.

رسالة موجزة بليغة أرعبت الكائنات الخضر ومتملقيهم من الكتبة في صحفهم، وأعادت عليهم حقيقة أننا فعلا نستطيع أن نراهم، نراهم يوميا وهم يسرقون، وهم يضحكون على منظر دماء أهلنا، نراهم حين يتقاسمون الغنائم وحين يختلفون عليها، نرى ذممهم التي تهرأت وضمائرهم التي تفسخت، ودينهم الذي بات له شكل ولون وملمس الدولار الأخضر، وعقيدتهم التي هي ليست سوى حساب مصرفي، وبلاغة خطبهم التي تشبه تماما بلاغة المرتشين، نرى خوفهم من القادم وخجلهم من ماضيهم، نرى انكسار أعينهم أمام أطفالهم الذين باتوا يعرفون أن آباءهم لصوص وسرّاق.

نرى ذلك كله لأننا "نكدر نشوفك" ونحاسبك!