الشهيد سعيد بن جبير _ التابعي الثائر والمفسر الكبير.... بقلم د. سلمان الجميلي النعماني

 

 

 

 

 

ابو عبد الله ،سعيد بن جبير بن هشام الاسدي بالولاء ، كوفي ، أحد أعلام ، التابعين بل اعلمهم وهو من القراء والمفسرين الكبار للقرآن الكريم ، والرواة المعدودين بالثقة وكثرة الرواية للحديث خصوصا عن ابن عباس فهو استاذه ( رضي الله عنهم ) . أخذ العلم عن ابن عباس ، وقال له يوما : حدّث ، فقال : أحدث وانت ها هنا ؟ فقال : أليس من نعمة الله عليك ان تحدث وأنا شاهد ،إن أصبت فذاك ، وان أخطأت علمتك . وكان سعيد من حفظة القرآن الكريم ومفسريه العظام وكان يسمى استاذ القرآن . قال وفاء بن إياس : قال لي سعيد في رمضان : امسك علي القرآن ، فما قام من مجلسه حتى ختمه . وقال سعيد : قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام قال خصيف : كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب وبالحج عطاء وبالحلال والحرام طاووس وبالتفسير ابو الحجاج مجاهد بن جبر واجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير كان سعيد رضوان الله عليه في حركة القراء التي خرجت على حكم الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق مع عبد الرحمن بن الاشعث فلما قتل عبد الرحمن وانهزم أصحابه في ( دير الجماجم ) وكان الحجاج قد اسرف في قتل اصحاب الجماجم خصوصا اسراهم ، لجأ سعيد الى مكة وكان واليها يومئذ الطاغية خالد بن عبد الله القسري ، فاعتقله وبعث به الى الطاغية الآخر الحجاج بن يوسف الثقفي مع اسماعيل بن اوسط البجلي . يقول سعيد : وشي بي واش في بلد الله الحرام أكله الى الله تعالى " يعني خالد القسري" ولما حضر سعيد بين يدي الحجاج وجرت بينها محاورة تنم عن شجاعة سعيد وقوة ايمانه واحتقاره للحجاج . قال له الحجاج : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير . قال : بل أنت شقي بن كسي . قال : بل كانت أمي أعلم باسمي منك . قال : شقيت أمك وشقيت أنت . قال : الغيب يعلمه غيرك . قال : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك الاها . قال : فما قولك في محمد ؟ قال : نبي الرحمة وامام الهدى . قال : فما قولك في عليّ أهو في الجنة أم في النار ؟ قال : لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها . قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل . قال : فأيهم أعجب اليك . قال : أرضاهم لخالقي . قال : فأيهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عندالذي يعلم سرهم ونجواهم . قال : أحب أن تصدقني . قال : ان لم أجبك لن أكذبك . قال : فما بالك لم تضحك ؟ قال : وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار ؟ قال : فما بالنا نضحك ؟ قال سعيد : لم تستو القلوب . ثمّ أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يديه ، فقال سعيد : ان كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح . والا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، ولاخير في شئ جمع للدنيا الا ماطاب وزكا . ثم دعا الحجاج بالعود والناي ، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد . فقال الحجاج : مايبكيك ، هو اللعب ؟ . قال سعيد : هو الحزن ، أما النفخ فذكرني يوما عظيما يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت بغير حق ،وأما الأوتارفمن الشاة تبعث معها يوم القيامة . قال الحجاج : ويلك ياسعيد . قال : لاويل لمن زحزح عن النار وادخل الجنة . قال الحجاج : اختر ياسعيد أي قتلة أقتلك . قال :اختر لنفسك ياحجاج فوالله لاتقتلني قتلة الا قتلك الله مثلها في الآخرة . أتريد ان اعفو عنك ؟ قال : إن كان العفو فمن الله ، وأما أنت فلا براءة لك ولاعذر . قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلما خرج ضحك ، فاخبر الحجاج بذلك فرده وقال : ماأضحكك ؟ قال عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك . فأمر بالنطع فبسط وقال : اقتلوه . فقال سعيد : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين . قال : وجهوا به لغير القبلة . قال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله . قال : كبوه لوجهه . قال سعيد : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) . قال الحجاج : اذبحوه . قال سعيد : أما اني اشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة ، ثمّ دعا سعيد فقال : اللهمّ لاتسلطه على أحد يقتله بعدي . وفعلا استجاب الله دعاءه فهلك الحجاج ولم يقتل أحدا بعد سعيد . ولما قتله سال منه دم كثير . فاستدعى الحجاج الاطباء وسألهم عنه وعمن كان قتله قبله فانه كان يسيل منهم دم قليل . فقالوا له : هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع للنفس ، ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف فلذلك قلّ دمهم قال أحمد بن حنبل : إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير وما على وجه الارض أحد الا هو مفتقر الى علمه (هذا القول والله يذكرني بالشهيد الكبير العالم محمد باقر الصدر رض الذي قتله حجاج العصر صدام ) .وقيل للحسن البصري : ان الحجاج قد قتل سعيد بن جبير . فقال والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عزّ وجلّ في النار . ويروى أن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغوص ثم يفيق كالمجنون ويصيح : مالي ولسعيد بن جبير؟ وقيل أنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جبير آخذا بمجامع ثوبه ويقول له : ياعدو الله فيم قتلتني ؟ فيستيقظ مذعورا ويقول : مالي ولسعيد بن جبير ؟ ! ويقال أنه رئي الحجاج في النوم بعد موته فقيل له : مافعل الله بك ؟ فقال : قتلني بكل قتيل قتله وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة . رحم الله سعيد بن جبير شهيدا فذا وعالما تابعيا صاحب موقف فريد أمام طاغية ونمرود عصره . ولسعيد بن جبير علم واسع في التفسير وآراؤه في ذلك راجحة وينقلها أكثر المفسرين وله كلمات حسان نذكرها له قال : إن أفضل الخشية أن تخشى الله خشية تحول بينك وبين معصيته وتحملك على طاعته فتلك هي الخشية النافعة ، والذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره ، ومن لم يطعه فليس بذاكر له ، وان كثر منه التسبيح وتلاوة القرآن . وقيل له من أعبد الناس ؟ قال : رجل اقترف من الذنوب فلما ذكرذنبه احتقر عمله. ولابدّ هنا من تسلسط بعض الضوء على شخصية الحجاج الاجرامية ، لقد قتل الحجاج من القراء غير سعيد الكثير ، وقتل من الاسرى على ماتذكر كتب التأريخ خمسة آلاف ، قتلوا صبرا بين يديه ، وتتبع جماعة بن الاشعث وقتل منهم مائة ألف وثلاثون على مايذكر بن كثير في تأريخه وهو مؤرخ شامي أموي ، منهم محمد بن أبي وقاص وجماعات من السادات الاخيار والعلماء الابرار، أمثال كميل بن زياد صاحب الدعاء المشهور باسمه ( دعاء كميل ) والمروي عن الامام علي ( ع ) ، وهو من الرواة الثقاة والعباد الزهاد والقراء الافذاذ ، وكان الحجاج يهاجم الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ويتهمه ويقول لو ادركته لضربت عنقه ، وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى وعمران بن عصام الضبعي وكان من علماء البصرة وكان صالحا عابدا ، أتي به أسيرا الى الحجاج فقال له : اشهد على نفسك بالكفرحتى اطلقك . فقال: والله اني ماكفرت بالله منذ آمنت به ، فأمربه فضربت عنقه . وكان كل من يحضرمن أهل الكوفة والبصرة بمن أسر يأمره الحجاج بالاقرار بالكفر ، فإن أقرّ أخلى سبيله وإلا ضربت عنقه وعن النضر بن شميل عن هشام بن حسان قال : احصوا ما قتل الحجاج صبرا ، فبلغ مائة الف وعشرين . قال الاصمعي : أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة ثمانين ألف اسيركانوا في سجن الحجاج . وقيل انه لبث في سجنه ثمانون ألف منهم ثلاثون ألف امرأة . وعن السري بن يحيى قال : مرّ الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة فقال : ماهذا ؟ فقيل أهل السجون يقولون قتلنا الحر ، فقال : قولوا لهم اخسئوا فيها ولاتكلمون . قال فما عاش بعد ذلك الا أقل من جمعة حتى قصمه الله قاصم كل جبار عنيد . وقال له أبوه يوسف يوما : يابني اني والله لأظن ان الله عزّ وجلّ خلقك شقيا ، وهذا يدل على أنّ أباه كان ذا فراسة قوية . وقال الاصمعي : قال عبد الملك يوما للحجاج وهو الذي ولاه على العراق : ما من أحد الا وهو يعرف عيب نفسه ، فصف عيب نفسك . فقال : اعفني . فابى ، فقال : أنا لجوج حقود حسود فقال عبد الملك : اذا بينك وبين ابليس نسب . وقال عنه عمر بن عبد العزيز : لو تخابثت الامم فجاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم . وقال عاصم بن أبي النجود : مابقيت لله عزّ وجلّ حرمة الا وقد ارتكبها الحجاج . وسبحان الله الذي يمهل ولايهمل فقد سلط على هذا الطاغية الدود فأكل بطنه وأحشاءه وسلط عليه الزمهرير فكانت النيران والكوانين حوله توقد لتدفئته حتى تحرق جلده لشدة قربها منه وهو لايحس بها . وشكا حاله الى الحسن البصري فقال له الحسن : كنت قد نهيتك ألا تتعرض الى الصالحين فلججت . فقال له : ياحسن لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني ، ولكن سألتك أن يعجل قبض روحي ولايطيل عذابي . ولما جاء موت الحجاج الى الحسن سجد لله شاكرا وقال : اللهم انك قد أمته فأمت عنا سنته وكانت وفاته بمدينة واسط ودفن بها . ولكن هيهات أن تجد له قبرا أو أثرا وهذه سنة الله تعالى مع الجبابرة والطغاة قال تعالى : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) ، وبالمقابل مر على قبر الشهيد العظيم سعيد بن جبير ، وفي نفس المدينة التي بناها الحجاج ، واسط . تجده ضريحا ومعلما للايمان والهدى ورمزا للتضحية . وعندما ولد الحجاج ، امتنع عن أخذ ثدي أمه أو غيرها من النساء فأشاروا على أهله بطلي وجهه بدم شاة اربعة أيام ، ففعلوا وأخذ الثدي ، وفي ذلك قصة مشهورة ترويها كتب التأريخ ، فكان لايصبر عن سفك الدماء لما كان من أول أمره ، وكان يخبر عن نفسه بأنّ أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب امور لايقدم عليها غيره . واخباره في هذا المضمار اكثر من أن تحصى في كتب التأريخ والسير وخطبته في مسجد الكوفة في بداية حكمه المشؤوم مشهورة بدأها بقوله : والله ياأهل الكوفة والعراق إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها ، وكأني أنظر الى الدماء بين العمائم واللحى...الى آخر الخطبة !