مفتاح زورق المتصرف

 

النظام الاداري في العراق والى وقت لا يمتد الى أكثر من نصف قرن ، كان المسؤول على قمة الهرم الاداري في مركز اللواء (متصرف) بعد أن كان مقسما أداريا على سناجق وولايات أبان الحكم العثماني، بعدها تحول التقسيم الاداري الى ألوية بلغ عددها 14 لواء، تشمل مساحة الخارطة الادارية للعراق من شماله الى جنوبه ، ومن شرقه الى غربه، كان سكان الارياف يشكلون نسبة 75 بالمئة من نفوس العراق ، أما المناطق الحضرية أنذاك بنسبة 21 بالمئة وما تبقى 4 بالمئة هم سكان البادية.. حيث بلغ عام 1957 وحسب الاحصاء العام للسكان (الكرصة) كما كان يطلق عليها سكان جنوب العراق، حيث بلغ عدد النفوس سبعة ملايين نسمة ، كان ” المتصرف ” يقف على قمة الهرم الاداري في مركز الواء، نحن في اللواء المنتفك مركزه مدينة الناصرية، تأسست  متزامنه مع لواء الدليم ومركزه مدينة الرمادي، عام 1869 في العهد العثماني ، عند منتصف خمسينات القرن المنصرم ، كنا تلاميذ في المدرسة المركزية النموذجية ، كنا لا نعلم حينها ماذا تعني (النموذجية) من بين زملاء التلمذة سمير عبد الكافي أبن متصرف لواء المنتفك، كان وديعا هادئا أنيقا ، محط اهتمام التلاميذ والمعلمين ، يجلس في مكان متقدم في الخط الاول بمواجهة اللوحة (السبورة) كان جميل الشكل والطباع ، حمل معه في أحد الايام لعبة على شكل زورق معدني يدار بألية ميكانيكية بواسطة مفتاح صغير، أبهرتنا حركة الزورق عندما وضعه على سطح ماء بركة خلفتها مياه الامطار، في ركن من اركان المدرسة تجمعت فيه مياه المطر ، كنا نراه كأنه مركب حقيقي تتعقبه العيون بفرح عندما يتحرك على سطح الماء ، بعد أن تشكل حول البركة جمع كبير من التلاميذ ، إلا أن المتعة لم تدم طويلا ، بعد أن قرع الجرس للأنصراف الى الدرس ، غمرتنا سعادة ، كانت تلوح على وجوهنا بصور نابضة ورؤى طموحة تاخذنا الى حافة تلك البركة ، التي حملتها الفرحة، في المخيلة الى الصف ونحن نستقبل معلم اللغة العربية (خليل) بعد أن تصفح وجوه التلاميذ من خلال العوينات الزجاجية قبل البدء بالدرس ، رفع سميرعبد الكافي يده ليعلن وبألم وحزن والدمعة تلج في عينيه مخنوق العبرة ــ قال : ضاع مفتاح الزورق .. ظن المعلم أن هناك زورقا للسيد المتصرف فادهشه الامر وتسرع بأتخاذ قرار البحث عن المفتاح ، أشار الى التلاميذ بمغادرة الصف والعودة الى بركة المياه ، للبحث عن المفتاح وغاب عن باله أنه مفتاح لعبة لا تستوجب كل هذا الاهتمام  .. تشكلت فرقة من التلاميذ بعد أن خلعوا الاحذية ورفعوا بناطيلهم حد الركبة ليخوضوا في الماء ، كان يوما من أيام شباط الباردة ، واياديهم تتلمس قاع البركه آملين العثور على المفتاح ، أمام أنظار المعلم المشرف ، كانت أصواتهم تعلو وتخفت ، ويبدو أنها وصلت الى مسامع المدير، الذي حضر ليرى ما أثار سخطه ، وافزعه المشهد وأبدى أنزعاجه ، ونظر الى المعلم نظرة تأنيب واستخفاف ، وحسم ألامر بصوت داعيا التلاميذ بالعودة الى الدرس ملوحا بعصاه بالآسراع الى الصف ، أنتهى موضوع المفتاح بعد أن فر التلاميذ أمام عصا المدير وغضبه وهو يصرخ المتصرف لايملك زورقا .؛ عندما نعود ونستذكر أيام الزمن الجميل، نرى أن هناك هيبة للدولة ، وهناك أمن واستقرار، والمسؤول الوحيد عن أدارة اللواء هو المتصرف ، لايملك زورقا، ولا سيارات دفع رباعي مظللة ومصفحة، ولا حمايات ، ولا حواجز كونكريتية تقطع الطرق ، واسلاك شائكة ، كانت الامور تسير بأنتظام سريان الماء في الفرات.

 

اما اذا ضاع مفتاح السفينة ، فيصعب العثور عليه في مستنقع ضحل ، إلا بالعودة الى الصف ، الصف يوحد الجميع، ويشخص من هو جاد حاسم في أتخاذ القرار ، ويبعد هوس الوهم الذي يسيطر على قيم الاخرين وحياتهم للحط منها .