من البصرة الى العالمية.. نورس عارف المصنّع التكنولوجيّ الأوّل في العراق |
العراق تايمز: كتبت رايتشل ويليامسون. تعلّم نورس عارف بنفسه القولبة الرقمية ثلاثية الأبعاد digital 3D modeling من كتيّب منسوخ قبل أن يمتلك حاسوباً بأعوام. وأسّس مساحة التصنيع الأولى والوحيدة في البصرة، في ممرّ السيارات المودي إلى منزل عائلته، بحيث لفت أنظار منظّمي مسابقة" معهد ماساتشوستس للتقنية" (MIT) لأفضل الأعمال الناشئة في العالم العربي هذا العام، إلى درجة أنّهم سمحوا له بالاشتراك في المسابقة عن بعد. بالمختصر المفيد، عارف شابٌ ملفت: فهو "المصنِّع" الأكثر تأثيراً في العراق، وأحد أكبر داعمي البيئة الحاضنة الريادية.
كان من السهل جداً سماعه يخبر قصّة مسيرته، بدءاً من الحصول على شهادةٍ في الصيدلة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، مروراً باختراع قفّازات لاقطة للحركة، وصولاً إلى الطموح للمنافسة في حرب روبوتات "ميجابوت" MegaBot. غير أنّ قصته تشكل أيضاً عرضاً لما يواجهه روّاد الأعمال العراقيون من قيودٍ على السفر، وتمويلٍ شبه منعدم، وافتقارٍ إلى أماكن آمنة للّقاء وتحويل الأحلام إلى حقيقة. من الطب إلى "آي ميميك" يقول بلال غالب، الشريك المؤسّس لمبادرة "مساحة التصنيع والريادة العالمية" GEMSI: "هو أشبه بقوة عظيمة في البصرة... فلديه صِلات كثيرة جداً". ولإخبار قصّته بالتفصيل، من الأفضل البدء من النهاية مع شركة عارف الناشئة "آي ميميك" i-mimic. فهذه الأخيرة عبارة عن بدلة لاقطة للحركة ثلاثية الأبعاد، تستخدِم برنامج التصميم "ثري دي ستوديو ماكس" 3D Studio Max لبناء رسوم متحركة رقمية، ويمكن استخدامها – نظرياً حتى الآن – للتحكّم بروبوتات ضخمة. "آي ميميك" مشروع عارف الرئيسي، وهو ما يريد أن يُمضي المزيد من وقته عليه في المستقبل، هذا إذا تمكن من إبعاد نفسه عن مهام الإدارة اليومية التي تتحتّم عليه في مساحة "مايكر سبايس" في البصرة، وعن قبول طلبات المشاركة في فعاليات دولية. يقول عارف إنّه يمكن استكمال البدلة بأكملها في غضون 6 إلى 12 شهراً، وأنّ الفكرة انتابته في عام 2010، غير أنّ مسيرة وصوله إليها بدأت قبل سنوات كثيرة. بحلول أواخر التسعينيات، حاز على شهادته في الصيدلة، لكنّه أبعد نفسه عن مسيرة مهنية في مجال البحوث الطبية واستمرّ بمحاولة العمل فيما بدأ وقع العقوبات الدولية المفروضة على العراق يزداد. ويقول: "كنتُ أفكّر في تصميمَين لكلّ شيء: تصميم معدّل، وتصميم بالمواد التي يمكنني الحصول عليها. ففي ذلك الوقت خصيصاً، حتى الحكومة لم تكن قادرةً على إيجاد المواد اللازمة للتصنيع ولأمور أخرى كثيرة". كانت المكونات التي ارتكزت عليها "آي ميميك" (وكذلك رحلة عارف ليصبح مصنّعاً متكاملاً)، هي برنامج كمبيوتر غير شرعيّ، ونسخة كتيّب بالأبيض والأسود حول هذا "البرنامج الجديد الذي يقوم بالأشياء بواسطة فأرة": وهو برنامج التصميم الرقمي "ثري دي ستوديو ماكس".
ويقول عارف إنّ الصور المتحركة "عملية مؤلمة"، فهي تستغرق ساعات وقد تعود بنتائج غير واقعية بتاتاً، حيث أنّ التحرّكات البشرية سلسة ومتداخلة للغاية، ولكنّه وجد وظيفة في "ثري دي ستوديو ماكس" تساعده في عمله تُدعى "الواجهة الرقمية للآلات الموسيقية" MIDI. من خلال هذه الخاصّية، يتمّ وصل وحدة تحكّم تشبه البدلة في منفذ "يو أس بي" USB، فيتمّ التقاط حركات الجسم بواسطة أجهزة الاستشعار وتحويلها إلى بيانات MIDI. ثمّ يستخدم عارف خالط صوت sound mixer لجعل الشخصيات ثلاثية الأبعاد تتحرّك، كما ولو كانت أمام كاميرا. ومن أحدث التعديلات التي أضافها، كانت دمج "أردوينو" Arduino (وهو لوحة إلكترونية عليها دارات كهربائية مفتوحة المصدر قابلة للبرمجة ورخيصة التكلفة) لتحدّد بيانات الموقع في الوقت الحقيقي من دون استخدام النظام العالمي لتحديد المواقع GPS. https://www.youtube.com/watch?t=83&v=Vw1VyI1IL2A "آي ميميك" كما يعرّف عارف عنها. ما زال "آي ميميك" نموذجاً أولياً، فالأموال المتاحة لهذا النوع من المشاريع شحيحة ومساحة التصنيع في البصرة لا تنفك تأخذ المزيد من وقت عارف. وهذا العام، أدخل عارف "آي ميميك" ضمن الأفكار المعروضة على مسابقة "معهد ماساتشوستس للتقنية" MITلأفضل الأعمال الناشئة في العالم العربي، والتي انتهت في شهر نيسان/أبريل. نجح في الجولة الأولى التي تقام عبر الإنترنت، إلّا أنّه فشل في الحصول على تأشيرة ٍإلى الكويت التي لا تبعد سوى 40 كيلومتراً عن بيته لحضور الفعاليات النهائية. لكنّ المديرة العامة الإقليمية لـ"منتدى ماساتشوستس للتقنية لريادة الأعمال" MIT EF، كاترينا بولاوت، تقول إنّهم يسمحون من وقت إلى آخر لبعض الفرق بالمشاركة عبر "سكايب" Skype.
وعلى الرغم من عدم التمكن من حضور دورات الإرشاد، انتهى الأمر بـ"آي ميميك" بين المتبارين النهائيين العشر (الصورة أعلاه). يطمح عارف إلى بيع البدلة التي سيخرج بها كأداةٍ لمطوّري الألعاب ليعدّوا الشخصيات، لكنّه يحاول الآن أيضاً توجيه المشروع تجاه أمرٍ أكثر إثارة بعد: ألا وهو التحكم بروبوتات المبارزة الضخمة. في حين أنّ "ميجابوت" MegaBot هي روبوتات مبارِزة ضخمة يتحكّم بها أشخاصٌ داخل هيكلها، يسعى عارف إلى استخدام "آي ميميك" كصِلة وصل بين دماغ الإنسان وجسم الروبوت، ما يسمح للشخص بالتحكم بتحرّكات الآلة من الخارج ويجعلها أكثر سلاسة في الوقت عينه.
يريد عارف أن يكون العراق المنافس الثالث في "ميجابوت" لينضمّ إلى اليابان والولايات المتّحدة. (الصورة من "جوجل بلاس") ولكن، في الوقت الحالي، على هذا المشروع التنافس على وقت عارف مع إدارة المعسكر العلمي "ساينس كامب" Science Camp. المعسكر العلمي "ساينس كامب" يقول مرتضى التميمي، مهندس في "فايسبوك" وعضوٌ في "مبادرة مساحة التصنيع والريادة العالمية" إنّ "ما شاهدناه كان أمراً رائعاً. كان مبهراً فعلاً. كان في... عربة مقطورة. أعتقد أنّه كان من المخلّفات العسكرية". تجدر الإشارة إلى أنّ المعسكر العلمي "ساينس كامب" ولد بجزءٍ منه ليساعد عارف على إنشاء "آي ميميك". فبعد أن دخلت الولايات المتحدة العراق في العام 2003، اكتشف عارف عالماً جديداً من المصنّعين خارج بلده. وراح يقرأ عن "أردوينو" والآلات الطابعة ثلاثية الأبعاد وآلات القطع بالليزر والأهم من ذلك كلّه مساحات التصنيع. لذا، عندما تم إنشاء مساحة العمل المشتركة الأولى في العراق، "فكرة سبايس" Fikra Space في بغداد عام 2012، قدّم عارف دعمه لها وتعلّم منها. كان يعلم أنّه سيحتاج إلى الأدوات والمساعدة لبناء نموذجه الأوّلي، لذا دعا "سبعة إلى عشرة" من أصدقائه للمساعدة. وبحلول شهر آب/أغسطس من العام الماضي، كانوا قد أنشؤوا المعسكر العلمي "ساينس كامب" لعشّاق الأجهزة في البصرة. تأهيل المعسكر العلمي "ساينس كامب". (الصور لأندرا يعقوب) العربتان المقطورتان مركونتان في ممر سيارات منزل عائلة عارف، بحيث أنّ الأولى بمثابة صفّ دراسي والثانية مملوءة بالأدوات، بما فيها أجهزة إلكترونية مستوردة من الخارج وآلة طابعة ثلاثية الأبعاد. كما أنّ هناك ذراع روبوتية لاسلكية، هي مشروع أطروحة تعدها طالبتان شابتان. ويقول بلال غالب الذي ولد في بغداد ويقيم حالياً في سان فرانسيسكو: "لقد أنشأ هاتين المقطورتين من لا شيء"، مع العلم أنّ غالب من مناصري مساحة "مايكر سبايس" وهو من جلب مفهوم "فكرة سبايس" إلى العراق. ويضيف "أنّهما أشبه بمقطورات عسكرية أميركية قديمة من الحقبة التي كان فيها الجيش الأميركي منتشراً في العراق. لذا عندما قصدتُ المعسكر العلمي ‘ساينس كامب‘ كان يضمّ ملصقات ضخمة كتب عليها ‘الحرية ليست مجانية‘، وأموراً من هذا القبيل". الأهمّ من ذلك أنّ المعسكر العلمي "ساينس كامب" يشكّل فسحةً آمنة وسط الاضطرابات التي تجتاح البصرة. يروي مرتضى التميمي، مناصر مساحات التصنيع المقيم في سياتل، أنّه زار المعسكر العلمي "ساينس كامب" العام الماضي ورأى شابّتَين يافعتَين تناقشان مشروعَيهما القائمَين على "أردوينو". ويقول: "رأيت فتاتين ضمن مجموعةٍ من 7 إلى 10 شبان، وكانت ثقتهما بنفسهما وارتياحهما هناك ملهمين. كان من المفلت فعلاً رؤية ذلك". ويضيف التميمي أنّ البصرة أكثر تحفظاً من بغداد، ولذلك فإنّ رؤية فتيات في المعسكر يخرقون العادات السائدة عبر تمضية الوقت مع الرجال وقضاء "الوقت في معسكر علمي"، يبيّن كم جعل عارف وشركاؤه هذا المكان آمناً ومقبولاً اجتماعياً.
يعتبر عارف المعسكر العلمي "ساينس كامب" والتكنولوجيا طريقةً لتعريف شباب العراق المنهار إلى أفكار عالمية، لأنّ الاعتقاد بأنّ ريادة الأعمال أو التصنيع أمر سهل في العراق خطأٌ ذريع. فدرجات الحرارة المرتفعة في فصل الصيف، والتي تبلغ 50 درجةً مئويةً، وانقطاع الكهرباء المتواصل، جعلا من استخدام الآلات التي يتمّ التحكم بها عبر الحاسوب غير صالحة للاستخدام تقريباً، وجعلا أيضاً من صنع النماذج الأوّلية شبه مستحيل. لقد فشل عارف مراراً وتكراراً في الحصول على تأشيرات، إذ لم تكن الكويت الحالة الوحيدة، وهذا يعني أنّه لا ينفكّ يتغيّب عن تدريبات وفعاليات في أوروبا والشرق الأوسط. ولكنّ التمويل والأمن هما الأمران الأهمّ هنا، إذ يقول عارف إنّ انعدام التمويل هو ما يؤخّر إكمال النموذج الأوّلي لـ"آي ميميك": فالمعدّات الملائمة باهظة. وبما أنّ الاستثمارات المخاطرة والتأسيسية شبه مجهولةٍ في العراق، تمّ تمويل المعسكر العلمي "ساينس كامب" من جيوب الشركاء المؤسّسين ومن حملة تمويل جماعيّ على "ذومال" Zoomaal. لم تتمكّن معظم المشاريع الريادية العراقية تخطّي عتبة مبلغ الحد الأدنى في حملاتها، إلاّ أنّ حملة التمويل الجماعي الأخيرة لـ"آي ميميك"، بالاشتراك مع "فكرة سبايس"، نجحت في جمع 25211 دولاراً لشراء معدات جديدة. https://www.youtube.com/watch?t=3&v=8_Bol8-3SkI الجهود المشتركة لكلٍّ من "فكرة" و"ساينس كامب" جعلت المشروع يحل على مساهمات وصلت إلى 252%. (الصورة من "ذومال") بدورهم، قال العراقيون الذين تكلّمت "ومضة" إليهم إنّ المشاكل الأمنية تشكّل جانباً أساسياً من جوانب حياتهم، وإنّهم يعتبرونها أقل أهمية من التمويل. إلاّ أنّ جايسن تشن وكيفن ويلر من شركة الاستشارات القائمة في واشنطن"ذي كايزن كومباني" The Kaizen Company، يقولان إنّ التحدّيات التي تواجهها كلّ الشركات الريادية في العراق تبدأ بمشكلة الأمن. فالأمن يؤثّر في قدرة الناس على اللقاء وحضور الفعاليات، ويخفّض من كمية التمويل التي يخصّصها المستثمرون الأجانب للبلاد، ويجعل الشركات الناشئة التقنية المحفوفة بالمخاطر أقل جاذبية للمموّلين المحليين. أما على حد قول صالح زين، الشريك المؤسّس لـ"فكرة سبايس": فـإنّ "ريادة الأعمال هنا رائعة. أنت أوّل من يخوض هذا المضمار وليس لديك أيّ منافسة. أن تمرّ في التحدّيات التي تجعلك مبدعاً. ولكن من جهة أخرى، ما من أمنٍ هنا، إذ يمكن أن تُقتل في أي لحظة". أمّا عارف، فهو يبدو أقلّ مبالاة بشأن المخاوف الأمنية، ويقول إنّ "البصرة مثل كردستان. يسودها الأمن. فالميليشيات انتقائية وفئوية". ويتدبر الرياديّ العراقيّ أمر التهديدات المحتملة من خلال إقامة "العلاقات الذكية والجيدة"، ويحرص على أن يكون حيادياً وعلى علاقةٍ جيدة مع الجميع. عارف منهمك جداً في هذه الأيام، فهو يساعد أيضاً على حشد التأييد لسنّ قانونٍ من شأنه أن يعترف بمساحات التصنيع في العراق ككياناتٍ قانونية، كما أنّ ارتفاع مكانته الدولية بشكلٍ سريع يعني زيادةً في الطلب على حضوره إلى فعاليات التصنيع في أوروبا وأميركيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا شكّ أنّ منطقتنا سوف تسمع عنه الكثير في المستقبل. --
المصدر: ومضة |