كنت اخطط ان التقي هاشم جواد في بيروت قبل عودتي النهائية الى بغداد عام 1971 لاني كنت اعرف مسبقا ان الظروف في بغداد لن تسمح لي بالسفر مرة اخرى لمقابلتة، وهكذا سافرت من باريس الى بيروت بتاريخ 28\06\1971 بعد ان انتهيت من مناقشة اطروحتي في جامعة باريس بتاريخ 11\06\1971 .. وصلت الى بيروت، ووضعت حقيبتي في فندق متواضع وذهبت أبحث عنه، وعندما دخلت العمارة، وسألت الحارس عن رقم شقة هاشم جواد ، أجابني انه خرج قبل قليل الى البلاج و يرجع متأخرا. خاب أملي، اذ كان يجب علي ان اغادر بيروت الى دمشق في اليوم التالي، وهكذا رضخت للامر الواقع و طلبت من الحارس وريقة صغيرة كي اكتب له بعض السطور. بدأت بالكتابة وفجأة دخل هاشم جواد مسرعا الى العمارة، لانه نسي بعض الحاجيات. عرفتة رأسا بالطبع ،و لكنه لم يعرفني . تقدمت نحوه محييا وقدمت له نفسي ، فهو ابن عمتي وانا ابن خاله ، ولكن فارق العمر الكبير ومسيرة حياته جعلتنا بعيدين عن بعض. تعانقنا. دعاني رأسا للذهاب معه الى شقته، ولكني قلت له ان يرجع الى البلاج ، فرفض بأصرار و بشكل قاطع ، وهكذا حدث هذا اللقاء الاول و الاخير معه ، و الذي استمر عدة ساعات وانتهى في المطعم القريب من شقته. تحدثنا طويلا عن مسيرة ماضية ودراستة في الجامعة الامريكية ببيروت ثم في اوربا.. وتوقفنا مع ذكرياته عن شخصيات عراقية عديدة ، و تكلمنا حول الادب الروسي ، وعن الكساندر سولجينيتسن بالذات . قلت له في البداية، أريد ان اعرف رأيك الشخصي بعبد الكريم قاسم، الذي عملت معه بشكل قريب طوال تلك المرحلة، فأجابني رأسا ان "عبد الكريم قاسم شخصية وطنية عراقية كبيرة رغم كل المآخذ". سألته: لماذا لا يكتب عنه؟ فقال انه بدأ فعلا بكتابة مذكراته عن تلك المرحلة. طلبت منه ان يحدثني عن احداث مع قاسم لا نعرفها نحن، فضحك هاشم جواد وقال، ان علي جودت الايوبي رئيس الوزراء العراقي السابق جاء مرة الى وزارة الخارجية، وعندما علمت بذلك – والحديث لهاشم جواد – استقبلتة رأسا و بكل احترام، وطلب مني مسألة بسيطة وتم ايجاد حل لها، بدأنا ندردش ونحن نشرب فنجان القهوة، فقال لي انه يسمع يوميا اللعنات على النظام الملكي المباد، ورجاني ان اطرح على عبد الكريم قاسم سؤالا محددا وهو: هل تسلمت سلطة 14 تموز 1958 دولة قائمة متكاملة بوزارتها ومؤسستها ودوائرها وقوانينها ام لا: ومن الذي قام بكل ذلك؟ اذ اننا عندما استلمنا الادارة في بداية العشرينيات لم تكن هنالك دولة اصلا. بقي السؤال يرن في ذهني، وفي المساء، عندما اجتمع مجلس الوزراء، وكان الاجتماع يستمر الى ساعات متاخرة من الليل، وبقيت بعد انتهاء الاجتماع، وحكيت لعبد الكريم قاسم ما جرى من كلام مع الايوبي، وطرحت عليه سؤاله المحدد. استمع قاسم بامعان وابتسم ولم يقل شيئا. وعلق هاشم قائلا: كان واضحا ان السكوت علامة الرضا. (مداخلة: عندما قرأت مذكرات علي جودت الايوبي وجدت على الصفحة الاولى صورة لبغداد في نهاية الحرب العالمية الاولى وتحتها جملة "هكذا تسلمناها" ووجدت على الصفحة الثانية صورة لبغداد عام 1958 وتحتها جملة "وهكذا سلمناها"، فتذكرت حكاية هاشم جواد مع الايوبي وعبد الكريم قاسم).. تشعب الحديث عن قاسم، فحكى لي هاشم جواد قصة طريفة حدثت له مع انستاس ميكويان في نيسان من عام 1960 عندما زار نائب رئيس الوزراء السوفيتي العراق. قال هاشم: استقبلنا الوفد السوفيتي برئاسة ميكويان في مبنى وزارة الخارجية، فتعجب الضيف السوفيتي من تواضع المبنى وقال مندهشا: هل كل ما نسمع به عن وزارة الخارجية العراقية ونهجها ينطلق من هذه البناية الصغيرة المتواضعة؟ (يعرف العراقيون بالطبع ان بناية الخارجية كانت تقع عندها في الباب المعظم).
|