الانتصار الأهم بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن للقاذفات الأميركية بل للسينما. دخلت هوليوود إلى المدارس والجامعات والبيوت. سحرت فاتناتها العالم وأبكت درامياتها الأحداث. وبهذه الوسيلة راحت تعيد كتابة التاريخ. واعتاد الناس على صورتين: الجندي الأميركي المنتصر يوزع الابتسامات وألواح الشوكولا، والجندي الألماني الفظ يوجه رشاشاته على المدنيين. كان ضابط «الصاعقة» أنيقًا رشيقًا في بدلة سوداء وجزمة لماعة ذات وقع مسموع. وكان قاسيا لا يرحم، متغطرسًا متشاوفًا بعرقه الآري وعينيه الزرقاوين. وكان جلفًا لا يرحم ولا يتردد في قتل أسرى الحرب وضرب الحصار حول القرى المعادية لاحتلاله. إلى حد بعيد، كانت هذه الصورة صحيحة. ألماني الحرب كان نازيًا، والنازية كانت ظاهرة هدَّت أوروبا ودمرت روسيا وحفرت آلامًا وجراحًا بلا حدود أو التئام. لكن ألماني بعد الحرب طفق يبني الخراب ويعتذر عن الموت الذي نشره في الكوكب. وبدل هتلر صار المستشار كونراد أديناور، سيد المصالحات التاريخية، وفيلي برانت سيد التواضعات، وهيلموت شميت حارس الاشتراكية الإنسانية وتعميق مشاعر السلم. وأشرف هيلموت كول على إعادة توحيد ألمانيا فيما كانت زوجته تنهي آخر كتاب عن الطبخ. المستشارة ميركل كانت ذروة هذه النزعة الألمانية. ليس فقط تستقبل اللاجئين بالآلاف، بل ترسل رجال الشرطة لقمع المظاهرات ضدهم. وهذا شيء جميل طبعًا. لكن هل من الحكمة التمادي في امتحان «العرق» الألماني؟ ألمانيا الآن في فورة عاطفية إنسانية، لكن ماذا بعد شهر عندما يرى المتظاهرون أن اللاجئين صاروا في قلب بيوتهم ويملأون شوارعهم، أو يخطر لأحدهم أن يذبح ابنته لأنها خرجت مع شاب ألماني؟ لن تستطيع أوروبا الصمود في وجه هذا المد المتسارع من الناس. الخطر في موجة اللاجئين ليس الأعداد، بل الوتيرة التي لا سابق لها. وحتى إدارة بالغة الكفاءة مثل ألمانيا، سوف ترزح أمام حجم العبء. وسوف ينتج عن ذلك مشاعر معادية هي محرضة في الأساس. وأوروبا التي فتحت حدودها أمام بلدانها على نحو مذهل، قد تعود إلى ثقافة الحدود. وقد واجهت هذه الثقافة خلال أقل من عام، امتحانين قد لا يتركان باب النجاح للثالث. الأول محنة اليونان وآثارها، والآن المحنة المشتركة بينها وبين اللاجئين. يفضل المرء ألا يفكر في احتمال عودة النزعة القومية الألمانية، أو سواها.
|