المرارة قد تتحول إلى عسل في حياة بعضهن

لم يعد وجهها جميلا كما عهده الآخرون، فقد غابت طراوته، وفقد ماء شبابه وبشاشته، فبدا أكثر شحوبا وانطفاء، بعد أن جفت فيه سواقي الراحة والنعيم وتخلى عنه ريعان الشباب. وعلى الرغم من أن وجهها لم يخل في يوم ما من كدمة أو ورم أو زرقة قاتمة بسبب لكمات زوجها وصفعاته وركلاته، لكن (ج. علوان) ما زالت متشبثة بزوجها، وغالبا ما تقول: «أنا أحبه، وسيصلح الله الحال في يوم ما». هذا التصريح غالبا ما يثير فضول الأقارب والأصدقاء، ويدفعهم لمعرفة السر الذي يجعل هذه المرأة، التي فقدت ملامح شبابها في وقت مبكر، تعيش مع زوج طائش يضطهدها ويسيء إليها كل يوم، ويتساءل الكثيرون ممن عرفوا واقعها، متعاطفين، وغاضبين، عن الأسباب التي تجعلها لا ترغب بالخلاص من عذاب يومي تتخلله الإهانات المختلفة والعبارات الجارحة التي تصل في بعض الأحيان إلى مستوى يخدش الحياء ويقوض ثوابت الآداب واللياقة.(أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا كسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) اختصر سيد فالح الموسوي الأستاذ في الحوزة العلمية إجابته عن حقوق الزوجة على زوجها بحديث الرسول (ص)، ويشير الموسوي في حديثه الى: «أن البعض يتوهم ان الاسلام يعطي الرجل الحق في ضرب زوجته وهذا أمر غير صحيح أبدا، فإن الضرب لا يحق ولا يصح لا عندما يعجز القول الطيب والإصلاح بالموعظة فإن لم ينفع لجأ الى الهجر، فإن لم ينفع لجأ الى الضرب لغرض الإصلاح وأن يكون غير مبرح، فيجب عليه التوسط فيه بما يحقق كسر النفس لا إيذاء البشرة والجلد، فقد قال الرسول (لا يجلد أحدكم إمرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم)، وحين يكون الأمر محصورا بين هد كيان الأسرة وزعزعة استقرار البيت المتماسك فإن العقل والشرع يبرران ذلك، ولكننا نرى رجالا لم يهتدوا بسنة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام يضربون المرأة ظلما وعدوانا لأتفه الأسباب وأهونها وربما طال بعد الضرب الهجر وبعد الهجر تأتي
الموعظة»
الواقع المرير

هذا الواقع المرير الذي تعيشه (ج. علوان) وهي امرأة تجاوز عمرها الـ(35) عاما ولديها طفلان في المدرسة الابتدائية، صار مألوفا للكثيرين ممن
يعرفونها.
ولأن هؤلاء تيقنوا من أن أي حل لن يلوح في الأفق القريب ولا البعيد مع إصرارها على القبول بواقعها، بدؤوا يتعاطفون معها ويلبون حاجاتها الإنسانية، فهذا يساعدها ماليا وماديا، وذاك يقف معها في محنتها الكابوسية مواسيا ومطمئنا بأن دوام الحال من المحال، فيما يبقى زوجها خارج الصورة منهمكا بانشغالاته الشخصية، مكتفيا بإصدار الأوامر والتعليمات، وغائبا جسديا وروحيا عن منزله الذي لا يزوره إلا قريبا من منتصف الليل بعد أن يبدد ما في جيبه على ثلة من الأصدقاء الذين يشبهونه من نواح
عديدة.
ليست (ج. علوان) المرأة الوحيدة التي تصر على البقاء مع زوج طائش ومسيء، فهناك الكثير من الحالات المشابهة لهذه الحالة التي تثير أكثر من سؤال
واستفسار.
ويقول الدكتور محمد عبدالحسن الأستاذ في علم الاجتماع: «الزوجة في مجتمعنا خياراتها محدودة إن لم تكن معدومة، فهي إما أن تبقى مع الزوج الذي لا يوفر الحدود الدنيا من مقومات الحياة الزوجية من أمن وأمان واستقرار وتلبية للحاجات والمتطلبات، وإما العودة الى بيت الأهل الذي قد يكون حجم المعاناة فيه أعظم بكثير منها في بيت
الزوج.
فالزوجة وإن كانت تعاني مع زوجها ولكنّ هناك تعاطفا مجتمعيا معها ونظرة المحيطين ان لها حقوقا في هذا البيت، أما في بيت الأهل فإن هذه الحقوق كلها ستكون مغيبة وسينظر لها على أنها حمل ثقيل، وبالذات إذا كان معها أطفال، في الثقافة الاجتماعية الشرقية الزوج هو الرجل الأهم في حياة المرأة وهو يمثل الأب والأخ والمحب، وبالتالي كل هذه المثل تكون حاضرة عند المرأة عندما تريد أن تتخذ قرارا بالطلاق أو
الانفصال».

معاناة محسوبة

انقشعت غيمة السعادة التي كانت تخيم على أميرة بعد شهر واحد من زواجها، فقد كانت تعتقد ان حياتها الزوجية ستكون كجدول ينساب بين المروج في خرير شاعري عذب بعد قصة الحب التي عاشتها مع خطيبها قبل الزواج، والتي تسطرت كلماتها على أوراق رسائل الشوق والغرام لتتحول فجأة الى كابوس من الألم والعذاب والمعاناة، فقد كانت ذات الاثنين والثلاثين عاما تتمتع بتصميم رهيب يصل الى حد العناد بالبقاء مع زوجها على الرغم من معاملته السيئة، فقد اتخذ من وجهها ساحة لإظهار قوته الجسدية لأتفه الأسباب، وكانت تلك الضربات المحطة الأولى التي انتزعت ما تبقى من الحب في
قلبها له.
وتقول أميرة بصوت يثقله الحزن: «على مدار فترة الخطوبة لم ينقطع سيل كلمات المحبة ولا تدفق أنهار الألفة فيما بيننا الى أن تم الزواج، فسقطت الأقنعة وكشف عن وجهه الآخر، لأرى من كان في يوم من الأيام الصرح الشامخ يتهاوى أمامي ويتحول الى شخص عديم المشاعر والمسؤولية فهو ينفق ما يملك في سبيل ملذاته الخاصة ويخرج لمواعدة النساء ويتعامل معهن بكل رقة وبكلام معسول، الى أن جاء اليوم الذي واجهته فيه عن أسباب التغيير الذي طرأ عليه بعد الزواج، وقبل الحصول على أية إجابة صفعني على وجهي، فثارت تلك الصفعة الأزمات بيننا وانهار جدار الاحترام لاستمرار الحياة
الزوجية».
ويؤكد الموسوي: «أن أغلب الزوجات في مجتمعنا يكاد يكون الزوج هو الرجل الأول في حياة المرأة من حيث العلاقة الجادة والفعلية وبالتالي يمثل نموذج الزوج بكل علاته ذلك النموذج المثالي الذي يتم التعلق به، أو الأمل في صلاحه وان يكون مثل ما يفترض أن يكون عليه الزوج، أعتقد أن الضرب ضعف في الشخصية والدليل أن كثيرا من الأزواج يعيشون حياة هادئة من غير استخدام الضرب، فالشخص غير القادر على حل مشكلاته يستخدم الضرب، وكثير من أولياء الأمور يستخدمون القوة لإثارة الرعب، فإذا دخل الأب المنزل فلا حديث خوفاً من
الضرب».

الدين والقانون

ويقول المحامي علي حميد: «إن قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لعام 1959 يعد من القوانين التي وفرت الضمانات الأسرية للزوجة والأطفال، إذ تضمن الكثير من الحقوق والضمانات ومنها ما نصت عليه المادة (40): (إن لكل من الزوجين طلب التفريق إذا أضر أحد الزوجين بالزوج الآخر أو بأولادهما ضررا يتعذر معه استمرار الحياة
الزوجية.
حيث ان اعتداء الزوج على زوجته بالضرب المبرح يعد ضررا جسيما يبيح للزوجة التفريق القضائي، ذلك لأن الضرب الذي يخرج عن حق الزوج في تأديب زوجته المقرر شرعا وقانونا ويشكل ضررا جسيما يتعذر معه استمرار الحياة الزوجية، وهذا ما اتجهت إليه محكمة التمييز الاتحادية في قراراتها لأن الحياة الزوجية تصبح مع الضرر بلاءً وجحيماً الذي قد لا يقتصر أثره على الزوجين بل يتعداهما الى الأولاد والأقرباء
والمجتمع».
ويشير الموسوي الى أن «الإسلام حرص على كرامة المرأة، لهذا شدد ريحانة المصطفى (ص) على حماية المرأة وحسن معاملتها في بيت زوجها، وألا ترغم على العيش مع من لا تحب وتهوى وهذا ما أكده الرسول (ص): «لا تنكح الثيِّب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها صماتها»، وان المرأة دائما ما تكون مغلوبا على أمرها بحكم العادات والتقاليد الموروثة، وهذا لا يمت بصلة للإسلام، فقد حفظ الدين القويم كيان الزوجة وأعطاها خصوصية مالية واجتماعية ودينية، فلا يمتلك الزوج أي حق من قريب أو بعيد في تعدي خصوصيتها كإنسانة ومؤمنة على
الإطلاق».

نظرة المجتمع

تفصح أميرة عن أحزانها أكثر فتضيف: «أنا في الحقيقة متيقنة بشكل تام من صعوبة الحياة الزوجية التي أعيشها، وان هناك ألف صوت يصرخ في داخلي ويمنعني من مواصلة هذه الشراكة، والأصعب هو ذلك السؤال الذي يتردد في خاطري دائما الذي مفاده (الى متى أبقى أتحمل؟) وفي لحظة أعدل عن اتخاذ القرار المناسب لإنهاء هذه الشراكة، فقد كانت أفكاري تسبح بعيدا في المستقبل خوفا من نظرة المجتمع إذا ما طلبت
الطلاق».
وتضيف أميرة أكثر: «هناك مشكلة أخرى وهي، ان قرار زواجي كان نابعا عن موافقتي، على الرغم من اعتراض عائلتي، فكل ما أمر به من ظلم لا أستطيع الإفصاح عنه كونه كان من اختياري وهذا كل ما في
الأمر».
ويعتقد عبد الحسن أن: «الطريقة الوحيدة للخلاص من الزوج السيئ، هو الهجر أو الطلاق، وكلاهما تترتب عليه آثار سلبية تجاه المرأة، قد يكون أبرزها هو إعالة ذاتها وأطفالها ان كان عندها أطفال، وتحمل نظرة المجتمع التي تتصف بالسلبية تجاه المرأة المطلقة أو التي هجرت زوجها، إذ ينظر إليها بنوع من الدونية في الوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وتكون تجربتها محطة من محطات التذكير بالفشل، كما أن طريقة التربية والتنشئة الاجتماعية تؤكد دائماً على حكمة المرأة وقدرتها على صلاح الرجل وبالتالي المرأة هي من تتحمل الرجل وهي من تقدم التنازلات والتضحيات، ويبقى دورها انتظار صلاح الرجل والذي قد يطول أو يقصر بحسب طبيعة الزوج والظروف المحيطة
به».
واليوم تبقى أميرة مستسلمة لقدرها عاجزة عن إنقاذ هذا الزواج المحتضر وليس عليها إلا أن تتأمل في غرقه عاجزة مثل قبطان يتأمل غرق سفينة تجر معها كل ثروتها الى الأعماق.