دعا الحبيب بورقيبة العرب إلى أمرين؛ الأول، العمل. والثاني، القبول بقرار تقسيم فلسطين من أجل أن نضمن بقاء القدس الشرقية والضفة الغربية، إضافة إلى غزة. كلاهما كان صعبًا وشاقًا. لذلك، صفقنا ضد بورقيبة ومع الشعارات المريحة.. فالشعار يعيد فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، وهو، بدل التعب والسعي والبناء للمستقبل، يرن في الآذان رنة مطربة ويرش الأحلام مثل ملبس الموالد. المشهد التالي هو صورة هذه الجموع تقتحم أسلاك أوروبا بأحزانها وأسنانها، لا تريد الالتفات إلى الوطن المطمور بأكياس الشعارات والخالي من أي فرصة عمل. شعار يحل محل شعار، ونكسة تحل محل نكسة، وفاقة تحل محل فقر. الذين قالوا لنا: «الصراع مع إسرائيل هو صراع العلم في الاقتصاد والزراعة والصناعة»، قلنا إنهم «خونة ومهبطون للعزائم». والذين قالوا لنا: «حرام أن يبقى نحو مليون فلسطيني في المخيمات لأن ذلك جزء من الهزيمة»، قلنا إنهم «مندسون يريدون القضاء على روح القضية». والذين قالوا لنا: «عليكم بالحقائق بدل الأوهام»، رميناهم بالبذاءة والسفاهة والنفي النفسي المنظم. لا يحمل اللاجئون الهاجمون على أوروبا شيئًا من أوطانهم سوى الخرق و«الآيفون». كل ما يريدونه هو أمامهم في مخيمات أوروبا ومجهولها وضياع لغاتها ورحمة الرافضين من أهلها لقوافل الغرباء المتجهة غربًا. فماذا حدث للشرق الذي غنيناه وملأناه خطبًا وزيناه بالسجون ومنصات الشنق في حرم الجامعات؟ لماذا لا نزال نشتم الخديوي الذي حفر القناة بوصفه مبذرًا ومتأثرًا بالفرنسيين؟ وهل تقرأون المقالات التي لا تزال تكتب إلى اليوم، هذا اليوم، عن أن القناة الجديدة كذبة؟ يا عمي كيف يمكن أن يكون كل هذا كذبة من المياه والرمال والسفن والدخل والعمال؟ كل ما هو عمل وإنجاز، كذبة.. لأنه يدعو إلى التأمل والتفكير والاقتداء. لا نزال نهوى أن نعبأ بالفقاعات. هناك قرون بين البلاد التي يهرب منها اللاجئون والبلدان التي يصلون إليها. هنا نحاسب شركات القطار على التأخر ثانية، ونحن بلدان بلا قطارات.. وأنظمة نقل مزرية ومهترئة، وعواصم مطمورة بالنفايات. لا يريد الهاربون النظر إلى الخلف. ثمة كلمتا سر؛ واحدة عن الدول الموعودة، وأخرى عن الأوطان الموجعة في عربة الحروب والجوع والركام وثقافات ما قبل.. قبل الجاهلية، زمن الوأد والتيه والعيش دون سقف واحد مدى الحياة. أما الشعار المرفوع، فمثل ما سبق.
|