هجرة العراقيين الجديدة إلى الغرب الأسباب والمعالجات

  

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

 

الهجرة من الظواهر المتلازمة والمتوارثة مع الإنسان في كل المجتمعات البشرية لأسباب متعددة منها دينية، اقتصادية، سياسية، وعلمية نظراً لتوسع دائرة المعارف والعلوم المختلفة ولمواكبة التطور في العالم ووسائل الاتصال المختلفة، مما شجع الإنسان على الهجرة والبحث عن مناطق أكثر أماناً للعيش وممارسة نشاطه لخدمة الإنسانية، وكانت الصراعات السياسية والعرقية لها الدور الأكبر في هجرة أبناء الوطن، وترك أوطانها الأصلية والبحث عن أوطان بديلة للحفاظ على حياة ومستقبل أبنائها، بعد أن وجدوا هناك مخاطر على سلامة ومستقبل أبنائها، بانعدام القانون والنظام، وانعدام الوسط الاجتماعي لحمايتهم. وعليه ظهرت فكرة الهجرة القسرية للحفاظ على سلامتهم وأبنائهم.

ويعتبر الهاجس الأمني إلى جانب أسباب اقتصادية وسياسية في مقدمة الأسباب التي أجبرت الكثير من العراقيين على الهجرة إلى خارج البلاد، وعادة ما يسافر المرء للحصول أو لتحقيق أمر ما كالحصول على عمالة أو إكمال دراسة أو تحقيق هدف مرجو لكن هجرة العراقيين اليوم بدون هدف ولا سابق موعد انها هجرة للحصول على الأمان المفقود والحفاظ على النفس، وهرباً من الأوضاع الأمنية المتردية والتهديدات التي تلاحقهم من جهات مجهولة والقتل على الهوية والتهجير القسري، وتردي الأوضاع الاقتصادية، كل ذلك كان دافعاً للكثيرين إن يتوجهوا إلى أماكن أكثر أمانا واستقراراً فوجدوا إن دول الجوار قد فتحت أبوابها لاستقبالهم وإيوائهم الأمر الذي شجع على استمرار قافلة المهاجرين وتزايد عددهم مع مرور الوقت، فالمهاجرون قد تركوا فراغاً ملحوظاً في كافة القطاعات لان أغلبيتهم من أساتذة الجامعات والأطباء ورؤوس الأموال حيث نالت هذه الشريحة الحصة الأكبر من التهديدات والاغتيالات وعاشت دوامة العنف من دون مبرر لذلك أحدثت هجرتهم فجوة من النسيج الحي في المجتمع.

في الوقت الذي يعاني فيه البلاد من تهديد إرهابي خطير متمثل بتنظيم داعش الإرهابي، وتدهور اقتصادي بسبب انخفاض أسعار النفط، وسياسات غير موفقة من قبل الأحزاب والكتل السياسية الماسكة بالسلطة، فان هجرة العراقيين اليوم إلى خارج العراق وخاصة إلى الدول الأوربية له أسباب وغايات عديدة منها:

1- من أهم أسباب الهجرة في العراق هي الإحباط التي أصيب بها العديد من الشرائح المثقفة والأكاديميين في المجتمع، والسبب هو استلام الأقل كفاءة المسؤولية الأولى عن تسيير دفة العمل والتخطيط في المراكز العلمية مثل مجلس النواب والوزراء والمدراء العاميين وحتى وصل الأمر إلى الجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها، حتى إن اغلب التعيينات تتم عن طريق الأحزاب السياسية الماسكة بزمام السلطة في وزاراتها، فلا تتوفر أي فرصة إلا نادرا لأي شخص مستقل بان يصبح مثلا وزيرا أو نائبا في البرلمان أو حتى مدير عام إن لم يكن منتميا إلى جهة سياسية معينة، فهؤلاء السياسيين نجد إن لديهم مركب نقص ويعرفون في دواخل أنفسهم مستواهم لذلك يعتبرون كل إنسان واعي وكفء عدواً لهم لان وجوده يظهر نقصهم أمام الآخرين، فيلجئون إلى كل وسائل الإحباط الممكنة للتخلص منه وإذا عجزوا عن ترويضه بالطرق العادية لجئوا إلى الطرق الملتوية من تهديد بالقتل أو عزله من المناصب العليا أو حتى اتهامه بشتى التهم مما يضطره أخيرا للهجرة إلى البلاد الأخرى.

2- وعدم فسح الفرص لأصحاب الكفاءات العليا بالمناصب التي يستحقونها، وحرمانهم من التقدم العلمي، يتجه هؤلاء إلى الهجرة طلبا للطموح العلمي الذي لا يحققه الموقع الذي يتواجد فيه حتى وان احترم وقدم على غيره لذلك تجده يذهب إلى حيث يجد ضالته وهي إشباع روح البحث والتطوير أو المشاركة الفاعلة في الرأي والخبرة أو الحصول على الدعم المادي والمعنوي وإلى حيث يستجاب لطلباته مهما كلفت ما دامت سوف تؤدي إلى نتيجة تفيد الممول وتحفظ حق العالم والمؤسسة العلمية.

3- إن عملية الهجرة عملية منظمة ومدبرة وتقف وراءها إطراف تمولها وتخطط لها فغايتها إفراغ العراق من كفاءاته العلمية والأستاذ الجامعي ذو إمكانيات متميزة في التدريس، فالجامعات العربية ما زالت تحتفظ بالأساتذة العراقيين الذين هاجروا إليها في العقد الماضي، والسبب إن جميع إجراءات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي غير مجدية وغير عملية ودون مستوى الواقع فهي لا تؤمن الحماية الكافية للأساتذة والتدريسيين الجامعيين ماعدا الذي قامت به من تأليف اللجان لمتابعة ظاهرة قتل وتهديد الأساتذة منها لجنة حماية التدريسيين وهذه اللجنة اقتصر دورها على تأمين الحماية داخل الحرم الجامعي وهي لاتحميهم خارج الجامعة وفي الطريق ولهذا فالإجراءات غير نافعة وغير مجدية أمام ما يمر به التدريسيين من تهديدات وقتل عشوائي.

4- إن هدف الغرب من استقطاب الشباب العراقي والسوري على وجه التحديد - الذي هو أمل المستقبل والبناء في البلاد- خلفه أجندات خارجية (دولية وإقليمية) وهي الصفحة الأخرى من صفحات الإرهاب، فبعد سنوات من مقاومة سوريا والعراق لتنظيم داعش الإرهابي تحاول دول في المنطقة وأمريكا ودول أوربية تشجيع الشباب على الهجرة من اجل إضعاف الجبهة الداخلية لهذه الدول وإضعاف قدرتها على مواجهة الإرهاب، ومن ثم احتمال سقوطها بيد المجموعات المسلحة الإرهابية، خاصة وان العراق يواجه الإرهاب حاليا من خلال قوات الحشد الشعبي والمتطوعين من فصائل المقاومة المسلحة، بعد دعوة المرجعية الرشيدة بالجهاد الكفائي، وان فتح باب الهجرة بهذا الوقت هو سياسة مقصودة هدفها إسقاط العراق وسوريا.

5- البطالة المستشرية بين اغلب العراقيين، فأكثرهم هناك يعيشون بوضع اقتصادي مؤلم وصعب جداً، فرغم من العراق هو من اغنى دول العالم بالموارد الاقتصادية مثل النفط والغاز والزراعة، إلا إن الإجراءات الأمنية المشددة وقطع الطرق، والتفجيرات الإرهابية، التي جعلت العراقيين يجدون صعوبة في إيجاد فرصة عمل لهم، أو الحفاظ على حياتهم، ولا ننسى الفساد المستشري في اغلب مؤسسات الدولة العراقية الذي جعل من أموال الدول نهبا للمتنفذين، ثم انخفاض أسعار النفط، الذي جعل العديد من المشاريع الأعمار تتوقف مما اثر على الوضع الاقتصادي للعمال والكسبة من العراقيين، وجعل حلم الهجرة هو السائد في المشهد العراقي.

6- لقد طرأت على المجتمع العراقي مفاهيم جديدة أدت إلى تدمير أسس الدولة العراقية، فقد اعتمد نفس الأسلوب المتبع من قبل النظام السابق الذي حرم الآلاف من العراقيين من التعيين في دوائر الدولة لأسباب عديدة ومنها معارضة النظام، فقد اعتمدت أيضا أسس خاطئة وهي المحاصصة الحزبية والطائفية التي حرمت العراقيين من التعيين والوصول إلى مراكز متقدمة في الدولة، فقد تم اقتسام المناصب الحكومية بين الكتل والأحزاب وتعيين أصحاب الولاءات الخاصة بهم، وإقصاء كل وطني يحاول الوصول إلى مناصب خارج سياق الطائفية والحزبية، كذلك إقصاء أصحاب الكفاءات من المكونات القليلة العدد مثل الكلدان واليزيدين والصابئة، كل هذه جعلت من الهجرة هي الحل الوحيد ومتنفس لهم.

7- إضافة إلى تهميش المكونات العراقية الأصيلة مثل الشبك والأشوريون والكلدان والايزيديون والصابئة، فان إلحاق الأذى بهم من قبل بعض التنظيمات المسلحة الإرهابية مثل تنظيم " داعش الإرهابي" قد زاد في الطين بلة، كما إن عجز الحكومة العراقية عن حمايتهم وتوفير العيش الأمن لهم، فعلى الرغم من إن الدستور العراقي يحتوي على عدد من القوانين الخاصة، لحماية المواطن والأقليات الدينية والاثنية، ولكن لم تجد لها صدى في ارض الواقع وإنما أصبح فوق الرف وان بنوده قابلة للمطاطية وإعطاء الكثير من التفسيرات في آن واحد مما يقلق أبناء الأقليات في حال اتخاذ القرارات التي تخص الأقليات الدينية. وان هامش الديمقراطية أصبح محدوداً جداً حيث يفقد الأمل لكل الشعب العراقي.

8- الحروب التي تقودها الحكومة ضد الإرهاب التي أخذت مديات واسعة، وأدت إلى عسكرة البلاد واستنزاف الطاقات، وخسائر اقتصادية هائلة، وسوء الإدارة، جعلت العديد من الشباب يفقد الأمل بالمستقبل ويتجه إلى الهجرة لدول الغرب تحت تأثير المغريات التي تطرحها بعض هذه الدول.

وعلى هذا يتطلب من الحكومة العراقية إن أرادت إيقاف الهجرة إلى خراج البلاد إن تتخذ العديد من الإجراءات السياسية والاقتصادية والأمنية وعلى رأس هذه الإجراءات هي:

1- معالجة الوضع الأمني المتدهور في البلاد، وذلك بالإسراع بإتباع سياسات أمنية جدية في مواجهة الإرهاب والقضاء عليه بأسرع وقت ممكن، لان إي تأخير وإطالة أمد الحرب قد يقود إلى التذمر الشعبي، واليأس، وزيادة تدخل الدول ومنها ما نراه حاليا من فتح الهجرة للشباب، لهذا إن معالجة وإنهاء حالة الحرب في العراق واستقراه هي مفتاح إيقاف الهجرة، بل وعودة المهاجرين، إذ إن خلال السنوات الأولى من الاحتلال واستقرار الأوضاع في العراق رئينا إن عدد من العائلات العراقية المهاجرة في دول الجوار أو من بعض دول أوربا قد عادت للبلاد.

2- إعطاء الحقوق القومية والدينية للأقليات العراقية الأقل عددا "الايزيديون، والصابئة، والأشوريون، والكلدان، والشبك، والسريان"، وتوفير العيش الكريم لها، وتوفير الأمن في مناطقهم، واشراك كل فئات المجتمع في عملية صنع القرار لأنها جوهر الديمقراطية، لان بدون إعطاء حقوق الأقليات لا يمكن ضمان حقوق الأكثرية وتقدم البلاد، لان احترام التنوع الحضاري هو المبدأ الأساس لبناء مجتمع المساواة والمشاركة في الحياة السياسية، وتوفير الرفاهة الاقتصادي والاستقرار لاجتماعي والثقافي في المجتمع.

3- معالجة الثغرات الدستورية التي سببت العديد من المشاكل داخل العراق، ومنها إلغاء العمل بالمحاصصة الطائفية والقومية، والاعتماد على الكفاءة في تسلم المناصب في الدول سواء كانت مدنية أو عسكرية، مما يؤدي إلى بناء مجتمع المواطنة، وعلى العراقيين تشكيل حكومة وطنية تسهر على حماية ورعاية كل المواطنين، وان تطبق كل القوانين والقرارات المتعلقة بحياة المواطن دون تمييز.

4- معالجة الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد والذي يعتمد بشكل أساس على تصدير مادة النفط فقط، واعتماد سياسات اقتصادية تقود إلى تنويع مصادر الدخل في البلاد، وتطوير الزراعة والصناعة وعدم الاعتماد على المواد المستوردة التي تقود إلى استنزاف العملة من البلاد، وتوفير فرص عمل للعاطلين، من خلال القضاء على آفة الفساد المالي والإداري في البلاد.

5- محاولة فتح أفاق أمام الشباب العراقي من خلال تعيينهم في مؤسسات الدولة المختلفة على أساس الكفاءة والخبرة لا على أساس المحسوبية والمنسوبية، لان اغلب أسباب الهجرة حاليا هي من فئة الشباب الذين هم عماد بناء الدولة، خاصة وان العراق بحاجة إلى خدماتهم وهو يخوض حربا ضد الإرهاب، لهذا إن توفير فرص العيش الكريم للشباب هو الحل الوحيد لوقف الهجرة.

6- على وزارة الخارجية إن تأخذ دورها التاريخي في الحد من الهجرة من خلال الاتصال بالدول التي تستقطب العراقيين وعدم تسهيل إجراءات الهجرة، إذ ان بعض دول أوروبا قد فتحت أبواب الهجرة للعراقيين والسوريين وبدون سابق إنذار، وهي سياسة معروفة الأهداف ومحاولة لتفريغ هذه البلاد من الكفاءات والطاقات الشابة، وهي محاولة أخرى بعد محاولة زج الإرهاب إلى العراق وسوريا من قبل دول معروفة في المنطقة، كذلك على الأجهزة الأمنية إن تتخذ دورها في منع عمليات التهريب غير الشرعية ومنع المهربين واعتقالهم، لان عمليات الهجرة غير الشرعية تضر بسمعة البلاد واقتصاده.

7- كذلك علينا إن لا ننسى دور المرجعية الدينية في الحد من الهجرة من خلال إصدار الفتاوى والبيانات، وحث الشباب العراقي على التمسك بأرضه وحمايتها، فعلى الرغم من خطبة الجمعة 28 أب في الصحن الحسيني الشريف لم تخلو من التطرق لها، بل دعا ممثل المرجعية في كربلاء في هذه الخطبة الحكومة العراقية إن تبحث في أسباب الهجرة، ودعا الشباب إلى عدم الانجرار وراء الهجرة للغرب، إلا إن دور المرجعية يجب أن يكون اكبر من الدعوات.

أخيرا إن إزالة أسباب الهجرة والتي لازالت موجودة هي المفتاح والحل لمنعها، إذ ما لم تتحسن الدولة العراقية ومؤسساتها في حماية المواطن وتوفير العيش الكريم له، وايلاء أصحاب الكفاءات والخبرات أهمية، ومعالجة الفساد المالي والإداري، وإلغاء المحاصصة الطائفية، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، فان الهجرة لن تتوقف وستكون نتائجها كارثية على البلاد.